بحكم مرض والدتي و ملازمتها البيت في غالب الاحيان..تعودت خالاتي و بنات الخالات و بنات الاخوال ان يجتمعن في بيتنا كل يوم احد .. و تعودن ان يحملن معهن صغارهن..و يحملن في نفس الوقت حكايات لاتنتهي عن الصعوبة التي يجدنها في تهذيب صغارهن و جعلهم مطيعين و مؤدبين..
و لطالما جلست استمع بدهشة للهذه الحكايا عن الاطفال.. احيانا اجد نفسي اضحك من بعض تصرفات الصغار التي تجد الام نفسها في مواجهتها.. و احيانا اشفق عليها..
و قد حكت احدى قريباتي فقالت : (من منا لم يؤرقه هم تربية ابنائه و تهذيبهم و تقويمهم و تنشئتهم على التقوى و الصلاح و حسن الخلق؟؟؟
انه هم يؤرق جميع الاباء و الامهات .. و يقض مضجعهن ..لان لا احد يريد ان يكون ابناؤه منفلتين و خارجين عن السيطرة.. و يلجا جميع الاباء لوسائل متعددة من اجل اخضاع صغارهن .. و جعلهم اطفالا مطيعين .. مهذبين .. مؤدبين..
هذه الوسائل تختلف باختلاف البيئات الاجتماعية.. و المستوى الثقافي.. و احيانا حسب المزاج الشخصي للاباء..
لاننا احيانا نقر باننا نفرغ فيهم شحنات الغضب الذي يسببه الطرف الاخر.. او اي طرف خارجي..
من بين الوسائل التي كنت امقتها جعل الطفل يدفع ثمن غضب دفين للام او الاب.. عن طريق العقاب الجسدي.. او التحقير.. او اطلاق الفاظ الشتم و السب..مما قد يؤثر في نفسيته بشكل سيئ..و جعله طفلا منطويا او عصبيا متمردا..
و بما انني الاخت الصغرى لثلاث اخوات بنات..لكل واحدة منهن همومها مع صغارها.. و طريقة تهذيبهم و تعليمهم..فقد تعلمت الكثير الذي يهيئني لاكون اما مختلفة عما اراه حولي..
و الحقيقة ان اخواتي رغم ان لكل واحدة منهن بيتها و حياتها.. فهن اغلب الوقت في بيت الاسرة.. و اطفالهن موجودين بصفة مستمرة..
و الصراحة تقال ان ابناء اخواتي لم يكونوا اطفالا عاديين..كانوا عفاريت في صورة اطفال..ما ان يدخلوا البيت حتى يتحول السكون الى صخب عارم.. و ترى الاشياء الثابتة تطير..و الساكنة تتدحرج و تتكسر.. و يتحول المنزل في غمضة عين لساحة وغى..فلا ترى الا الايدي تتشابك .. و الارجل تتعارك.. و الالسنة ترمي بالفاظ تلتقطها اذني و لا يصدقها عقلي ابدا..
و كنت دائما ارمي اللوم على اخواتي..و اقول انهن لم يحسن تربية هؤلاء الاطفال.. و لم ينجحن في تهذيبهن..
و كانت اخواتي في احيان كثيرة .. يغضبهن كلامي.. و يقلن ( سنرى كيف ستوجيدين تربية ابنائك.. ان غذا لناظره قريب..)
و كنت على ثقة تامة بان اطفالي لن يكونوا مطلقا على هذه الشاكلة المنتفلتة.. المحبطة للآمال..
و تزوجت..
انتقلت من عالم الفوضى و الصخب..الى بيتي..كان بيتا صغيرا..لكنه هادئا.. انيقا.. مريحا..
و بما اني كنت قد انهيت لتوي دراستي الجامعية..فلم يكن لدي اي عمل سوى العتاية بجنتي الصغيرة..احرص على نظافتها.. و جعل كل قطعة فيها تنضح بالاشراقة.. و الدفء.. و كل ركن يتضوع عطرا و سحرا..
و بما اني امراة عصرية..مثقفة..وواعية..كنت احرص باستمرار على قراءة الكتب و المجلات.. التي تعنى بالبيت و الاسرة.. و السعادة في الحياة الزوجية..
كنت اود ان اؤسس اسرة مثالية.. و ان اكون زوجة مثالية.. جميلة.. انيقة في مظهري.. متفننة في مطبخي..حريصة على سعادة زوجي.. و الاهتمام ببيتي..
و جاء الحمل..
حدث سعيد بكل المقاييس..و بما اننا زوجين مثقفين..اقتنينا عشرات الكتب عن الحمل.. و الجنين.. و رعاية الصغار..
قرات كل شيئ يتعلق بالطفل.. لم اترك نظرية.. و لا دراسة.. و لا اطروحة تفوتني..فانا امراة عصرية .. مثالية و مثقفة.. و ابنائي يجب ان يتربوا على احدث طرق التربية العصرية السليمة..
لا للعقاب الجسدي..لما له من ايلام حسي و نفسي.. قد ينعكس على نفسية الطفل طوال حياته.. و يجعل منه شخصا تملاه العقد .. و الاحقاد تجاه ذويه.. و تجاه المحيطين به..
و اتفقنا انا و زوجي.. ان يكون الترغيب و التحفيز عن طريق المكافآت هو السبيل للتوجيه..
و عند التمادي في الخطا.. يكفي ان يعاقب الطفل بحرمانه من شيئ يحبه.. عزيز الى نفسه..و يتماشى مع سنه طبعا.. و نوعية مزاجه..
و كنت سعيدة لاني ساكون اما مثالية..رائعة.. لدي ابناء يضرب بهم المثل في التهذيب و حسن الخلق..
و جاء الطفل الاول..
و عرفت ان الامومة شيئا ليس بالسهل منذ اليوم الاول..
كنت اعرف ان الطفل يغسل و يرضع و يغير حفاظه و ينام قرير العين..
لكن هذا لم يحدث..
ما ان وضعت صغيري في مهده.. و اندسست في فراشي..انشد نوما هنيئا حتى الصباح نظرا لمازلت اعانيه من تعب الولادة..و ما ان بدات جفوني تتراخى.. و استسلم للهدوء.. حتى سمعت صرخة حادة تشق سكون الليل..لم اشعر بنفسي الا و انا اصرخ من الرعب و ارتمي على عنق زوجي لاحتمي به من الصوت الغريب الذي سمعته..
للحظة لم اعرف مصدر الصوت.. و نسيت ان معنا ضيفا جديدا..يشرف بيتنا لاول مرة.. و انه هو صاحب الصراخ الحاد..
حاولنا تهدئة الصغير.. حاولنا جعله يتوقف عن البكاء..ارضعته..غيرت حفاظه..وقفت به..جلست.. مشيت..بدون فائدة..
حاولت ان استعيد ما قراته في الكتب من دراسات عن بكاء الاطفال و اسبابها.. لكن ذهني كان مشوشا.. فلم تسعفني ذاكرتي بشيئ.. و كل ما خزنته و ائتمنتها عليه طار ادراج الرياح..
كانت ليلة صعبة..و لم يستسلم الوليد للنوم الا مع بزوغ الفجر..
و يا ليتها كانت ليلة واحدة..فقد استمرت معاناة الصراخ و البكاء طوال الليل و النهار لشهور عدة..
زرنا الطبيب اكثر من مرة.. لكنه كان يؤيد ان الطفل سليم..و ان ما يجعله يبكي باستمرار وجود بعض الغازات في بطنه..
و تغير حالي كله..لم اعد انم طوال الليل..و غرق البيت في الفوضى.. و الادهى.. اني انا المراة الواعية .. المثقفة.. العصرية ..لم اعرف .. و لم اجد وضع مخطط للانجاب..
فجاء الطفل الثاني..
و جاء الثالث..
و جاء الرابع..
و غرقت حياتي في الفوضى العارمة..الاطفال منتشرون في البيت يعيثون فيه فسادا.. الادراج تفتح و تفرغ محتوياتها.. الزجاج يتكسر.. اواني المطبخ في الصالة..البطاطس في الحمام.. التلفزيون احدهما يفتح و الثاني يقفل..المسامير الصغيرة تدخل من فتحة الانف.. الملابس و اللعب ترمى من النوافذ و الشبابيك..
وضعت في هذا العالم..
لم اعد انيقة..و لا عدت الحق حتى ان انظر الى نفسي في المرآة..كنت اركض طوال النهار..وصلت للحظات كنت اخاف ان ادخل الحمام لاتوضا..و ان دخلت ادخل اصغر الاطغال معي في عربته الى الحمام خوفا عليه من اخوته..فلطالما وجدتهم يحاولون جعله فار تجارب..يضغطون على راسه و يتساءلون لما هو رطب و رخو.. و يضغطون باصابعهم على عينيه ليروا ان كان يرى و يتالم..
انعزلت بسبب صغاري عن كل الاهل..حتى والدي اصبحت اخاف ان ازورهما بسبب الازعاج الذي يسببه اولادي..ما ان نزور احدا.. و ما ان اكاد ادلف من باب بيت الاقارب.. حتى يكون اولادي قد كسروا ما استطاعوا كسره.. و ضربوا اطفال اصحاب البيت..و فتحوا التلفزيون.. و تعاركوا على القنوات.. و دخلوا مطبخ الناس.. و رفعوا الاغطية عن اوعية الطعام.. و فتحوا الثلاجة.. و دخلوا الحمام.. و عملوا كوكتيلا من الصابون و المنظفات..يجرون في كل مكان..يتشابكون..يتصايحون..و يملاون الدنيا صخبا..
و كانت نظرات الناس لهم تشعرني بالفشل في تربيتهم..تشعرني بالرغبة في البكاء..
لكن ميزة اولادي انهم رغم صخبهم و شدة حركتهم فهم مطيعيبن..مطيعين جدا..عندما اقول لاحدهم في البيت اغسل اسنانك..يقول حاضر ماما..لكنه لا يغسلهم..
و عندما اقول راجع دروسك يا بني.. يقول حاضر ماما..و لا يراجع دروسه..
و عندما اقول توضا و صلي.. يقول حاضر ماما.. لكنه لا يتوضا.. و لا يصلي..
اولادي مطيعون لحد الجنون..لا يقولون لا ابدا.. من فرط طاعتهم اصبحت انسى كل النظريات التي قراتها عن تربية الاطفال..انسى كل الاطروحات و الدراسات..من فرط طاعتهم اصبحت انا.. المراة العصرية المثقغة.. اضرب بكل ما صادفه يدي..بالشباشب..بالكراسي..بادوات المطبخ..
ليس هذا فقط..بل اصبحت استعمل اسناني.. اصبحت اعض..
و لا انسى ذلك اليوم الذي عاد فيه زوجي مت عمله..و دخل البيت..فوجدني مطروحة فوق اثنان من اولادنا..اعض هذا في كتفه..و اشد شعر هذا لكي لا يفلت احدا منهما من العقاب..
لهذه الدرجة فقدت السيطرة على اعصابي.. و ضاعت مني كل النظريات..و اصبحت اتصرف كمعتوهة اتجاه اطفالي..
يومها..ذهبت الى خزانة الكتب..و اخرجت كل الكتب التي قراتها عن تربية الاطفال..مزقتها بجنون.. و جلست وسط ركام الاوراق ابكي بحرقة..كتلميذ ذاكر دروسه جيدا..و استعد للامتحان اتم الاستعداد..و بنى احلاما كبيرة بجني اطيب الثمرات..فاذا بالفشل يكون حليفه..و يضيع كل مجهوده .. و يتناثر في الفضاء كرذاذ بارد )
كانت قريبتي تتكلم بحرقة..بينما باقي القريبات يؤيدنها حينا.. و يشفقن عليها حينا اخر..لكنهن اتفقن جميعا انهن يعانين من نفس المشكل مع اطفالهن..عدم السيطرة..و الانفلات..و التشابك و العراك المستمر.. و عدم الاستجابة لاي طلب..
ظل حديث النسوة محط اهتمام و نفكير يشغل بالي..و بقيت اتساءل عن موطن الخلل..
هل يكفي للمراة ان تجيد تغيير الحفاظات.. و تجفيف دموع الصغار..و سرد الحكايا لهم.. و مساعدتهم في اعداد وحل الواجبات المدرسية.. لتكون اما مثالية؟
ام ان اغداق الاطفال بفيض عارم من مشاعر الحب و الحنان هو الاسلوب الامثل لاحتوائهم.. و كبح شغبهم و عنادهم؟
ام ان الصرامة في التعامل.. و عدم المرونة في الاستجابة لطلبات الصغار ..و فرض السيطرة الكاملة هو الحل الامثل؟
هل الحل ينام في بطن الكتب و احضان النظريات؟
ام يكمن في وعي الوالدين و طريقة تربيتهم.. و حالاتهم المزاجية؟
ربما تبقى تربية الاطفال فلسفة صعب ايجاد ماهيتها..و سيبقى السؤال مطروحا..لربما استطيع ان اجيب عليه مستقبلا عندما اجد نفسي وجها لوجه مع صغار ينتظرون مني ان اقتطع من حياتي و عمري لاوصلهم لبر الامان.. ليكونوا لقلبي ربيعا لا ينتهي.. و يكونون اجمل زهور .. يتضوع عطرهم ..داخل اسرتهم.. و داخل مجتمعهم..لينعموا برضى الاهل.. و الاهم.. برضى الله.