الثامن : ذكر من وقفت عليه ممن حكي عنه إنكار أحاديث المهدي أو التردد في شأنه ، مع مناقشة كلامه باختصار:
فإن قال قائل : قد أكثرت من النقل عن أهل العلم في إثبات خروج المهدي في آخر الزمان ، فلماذا ؟ وهل وقفت على ذكر إنكار أحد لخروج المهدي ، أو التردد في شأنه على الاقل ؟ .
والجواب عن السؤال الاول هو أنني أوردت بعض ما وقفت عليه من كلام أهل العلم ، بشأن خروج المهدي في آخر الزمان ، لتزداد ثباتاً ويقيناً بأن اعتقاد خروجه آخر الزمان هو الجادة المسلوكة ، ولتعلم أنه الحق الذي لا يسوغ العدول عنه والالتفات إلى غيره ، وعمدة اهل العلم في ذلك الاحاديث الواردة عن الرسول(صلى الله عليه وآله) فيه ، إذ لا مجال للرأي في مثل هذا الامر ، بل سبيله الوحيد هو الوحي ; لانه من الامور الغيبية .
أما الجواب عن السؤال الثاني ، فهو أني لم أقف على تسمية أحد في الماضين أنكر أحاديث المهدي ، أو تردد فيها ، سوى رجلين اثنين . أما أحدهما فهو أبو محمد بن الوليد البغدادي ، الذي ذكره ابن تيمية في منهاج السنة ، وقد مضى حكاية كلام ابن تيمية عنه ، وأنه قد اعتمد على حديث «لا مهدي إلاّ عيسى ابن مريم» وقال ابن تيمية : «وليس مما يعتمد عليه لضعفه» . وسبق في أثناء الكلام الذين نقلت عنهم أنه لو صح هذا الحديث لكان الجمع بينه وبين أحاديث المهدي ممكناً . ولم أقف على ترجمة لابي محمد المذكور .
وأما الثاني فهو عبد الرحمان بن خلدون المغربي المؤرخ المشهور، وهو الذي اشتهر بين الناس عنه تضعيفه لاحاديث المهدي . وقد رجعت إلى كلامه في مقدمة تأريخه ، فظهر لي منه التردد لا الجزم بالانكار . وعلى كل حال فإنكارها أو التردد في التصديق بما دلت عليه شذوذ عن الحق ، ونكوب عن الجادة المطروقة . وقد تعقبه الشيخ صديق حسن في كتابه إلاذاعة حيث قال : «لا شك أن المهدي يخرج في آخر الزمان من غير تعيين لشهر ولا عام ، لما تواتر من الاخبار في الباب ، واتفق عليه جمهور الامة خلفاً عن سلف ، إلاّ من لا يعتد بخلافه» وقال : «لا معنى للريب في أمر ذلك الفاطمي الموعود ، والمنتظر المدلول عليه بالادلة ، بل إنكار ذلك جرأة عظيمة في مقابلة النصوص المستفيضة المشهورة ، البالغة إلى حد التواتر» .
ولي ملاحظات على كلام ابن خلدون أرى أن أشير إليها هنا :
الاولى : أنه لو حصل التردد في أمر المهدي من رجل له خبرة بالحديث ، لاعتبر ذلك زللاً منه ، فكيف إذا كان من الاخباريين الذين هم ليسوا من أهل الاختصاص ؟ وقد احسن الشيخ أحمد شاكر في تخريجه لاحاديث المسند حيث قال : «أما ابن خلدون فقد قفا ما ليس له به علم ، واقتحم قحماً لم يكن من رجالها» وقال : «إنه تهافت في الفصل الذي عقده في مقدمته للمهدي تهافتاً عجيباً ، وغلط أغلاطاً واضحة» وقال : «إن ابن خلدون لم يحسن قول المحدثين : الجرح مقدم على التعديل ، ولو اطلع على أقوالهم وفقهها ما قال شيئاً مما قال» .
الثانية : صدَّر ابن خلدون الفصل الذي عقده في مقدمته للمهدي بقوله : «اعلم أن في المشهور بين الكافة من أهل الاسلام على ممر الاعصار أنه لابد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين ، ويظهر العدل ، ويتبعه المسلمون ، ويستولي على الممالك الاسلامية ، ويسمى بالمهدي ، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره ، وأن عيسى ينزل من بعده فيقتل الدجال ، أو ينزل معه فيساعده على قتله ، ويأتم بالمهدي في صلاته ، ويحتجون في هذا الشأن بأحاديث خرّجها الائمة ، وتكلم فيها المنكرون لذلك ، وربما عارضوها ببعض الاخبار» .
أقول : هذه الشهادة التي شهدها ابن خلدون ، وهي أن اعتقاد خروج المهدي هو المشهور بين الكافة من أهل الاسلام على ممر الاعصار ، ألا يسعه في ذلك ما وسع الناس على ممر الاعصار ؟ كما ذكر ابن خلدون نفسه ، وهل ذلك إلاّ شذوذ بعد معرفة أن الكافة على خلافه ؟ وهل هؤلاء الكافة اتفقوا على الخطأ ؟ والامر ليس اجتهادياً ، وإنما هو غيبي لا يسوغ لاحد إثباته إلاّ بدليل من كتاب اللّه أو سنة نبيه(صلى الله عليه وآله) ، والدليل معهم وهم أهل الاختصاص .
الثالثة : أنه قال قبل إيراد الاحاديث : «ونحن الان نذكر هنا الاحاديث الواردة في هذا الشأن» وقال في نهايتها : «فهذه جملة الاحاديث التي خرّجها الائمة في شأن المهدي وخروجه في آخر الزمان» وقال في موضع آخر بعد ذلك : «وما أورده أهل الحديث من أخبار المهدي قد استوفينا جميعه بمبلغ طاقتنا» .
وأقول : إنه قد فاته الشيء الكثير ، يتضح ذلك بالرجوع إلى ما أثبته السيوطي في العرف الوردي في أخبار المهدي عن الائمة ، بل إن مما فاته الحديث الذي ذكره ابن القيم في المنار المنيف عن الحارث بن أبي أسامة ، وقال : «إسناده جيد» ، وتقدم ذكره بسنده وحاصل ما قيل في رجاله .
الرابعة : أن ابن خلدون نفسه قد اعترف بسلامة بعض أحاديث المهدي من النقد ، حيث قال بعد إيراد الاحاديث التي خرّجها الائمة في شأن المهدي وخروجه آخر الزمان : «وهي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلاّ القليل» .
وأقول : إن القليل الذي يسلم من النقد يكفي للاحتجاج به ، ويكون الكثير الذي لم يسلم عاضداً له ومقوياً ، على أنه قد سلم الشيء الكثير كما تقدم ذلك في حكاية كلام القاضي محمد بن علي الشوكاني ، الذي حكى تواترها وقال : «إن فيها خمسين حديثاً فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر» ثم إنه في آخر البحث ذكر ما يفيد تردده في أمر المهدي ، وذلك يفيد عدم ثبات رأيه ، لكونه تكلم فيه بما ليس باختصاصه .
هذه بعض الملاحظات على كلام ابن خلدون في شأن المهدي ، وسأستوفي الكلام فيها مع ملاحظات أخرى عليه ، في الرسالة التي أنا بصدد تأليفها في هذا الموضوع ، إن شاء اللّه تعالى .
التاسع : ذكر بعض ما قد يظن تعارضه مع الاحاديث الواردة في المهدي ، مع الجواب عن ذلك :
1 ـ تقدم في أثناء كلام الائمة الذين حكيت كلامهم ، أن حديث «لا مهدي إلاّ عيسى ابن مريم» لا يتعارض مع الاحاديث الصحيحة الواردة في المهدي ; لضعفه ، ولامكان الجمع بينها لو صح ، بأن يكون معناه لا مهدي كاملاً إلاّ عيسى ابن مريم(عليه السلام) ، وذلك ينفي أن يكون غيره مهدياً ، كالمهدي الذي دلت عليه الاحاديث .
2 ـ إن ما دلت عليه أحاديث المهدي من قيامه بنصرة الدين ، وامتلاء الارض في زمانه من العدل ، لا ينافيه وجود الدجال وأتباعه في زمانه ، ومعاداتهم للمسلمين ، وكذا الادلة الدالة على بقاء الاشرار مع الاخيار ، حتى تخرج الريح اللينة التي تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة ، ولا يبقى بعد ذلك إلاّ شرار الخلق الذين تقوم عليهم الساعة ; لان المراد مما جاء في أحاديث المهدي كثرة الخير ، وقوة أهل الاسلام ، وحصول الغلبة لهم ، وقهرهم لغيرهم ، وهذا لا ينفي وجود أشرار مغمورين في زمانه ، كما أننا نعتقد أن الرسول(صلى الله عليه وآله)وخلفاءه قد ملؤوا الارض عدلاً ، وكان مع ذلك في الارض في زمانهم من أعدائهم الكثير (قل فللّه الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين).
3 ـ إنّ ما دلت عليه أحاديث المهدي من امتلاء الارض ظلماً وجوراً قبل خروجه لا يدل على خلو الارض من أهل الخير قبل زمانه ، فالرسول(صلى الله عليه وآله) أخبر في أحاديث صحيحة بأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر اللّه ، ومنها الحديث الذي رواه مسلم عن جابر أنه سمع النبي(صلى الله عليه وآله) يقول : «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة . قال : فينزل عيسى ابن مريم فيقول أميرهم : تعال صلّ لنا ، فيقول : لا ، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة اللّه هذه الامة» وهذه الاحاديث وأحاديث المهدي تدل على أن الحق مستمر لا ينقطع ، لكنه في بعض الازمان تكون لاهله الغلبة ويحصل له الانتشار ، كما في زمن الرسول(صلى الله عليه وآله) ، وكما في زمن المهدي وعيسى ابن مريم ، وفي بعض الازمان يضعف أهل الحق ويتضاءل انتشاره . أما أن الحق يتلاشى ويضمحل ، فهذا ما لم يكن فيما مضى منذ زمن الرسول(صلى الله عليه وآله) ، ولا يكون في المستقبل حتى خروج الريح التي تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة ، كما أخبر بذلك الذي لا ينطق عن الهوى صلوات اللّه وسلامه عليه ، فما من زمن في الماضي إلاّ وقد هيّأ اللّه لهذا الدين من يقوم به ، وفي هذا الزمن الذي تكالب أعداء الاسلام عليه ، وغزي بابنائه المنتسبين إليه أعظم من غزوه بأعدائه ، لم تخل الارض من إقامة شعائر الدين الاسلامي .
العاشر : كلمة ختامية :
إن أحاديث المهدي الكثيرة ، التي ألّف فيها مؤلفون ، وحكى تواترها جماعة ، واعتقد موجبها أهل السنة والجماعة وغيرهم ، تدل على حقيقة ثابتة بلا شك ، وأن أحاديث المهدي على كثرتها وتعدد طرقها ، وإثباتها في دواوين أهل السنة ، يصعب كثيراً القول بأنه لا حقيقة لمقتضاها ، إلاّ على جاهل أو مكابر ، أو من لم يمعن النظر في طرقها وأسانيدها ، ولم يقف على كلام أهل العلم المعتد بهم فيها . والتصديق بها داخل في الايمان بأن محمداً هو رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ; لان من الايمان به(صلى الله عليه وآله) تصديقه فيما أخبر به ، وداخل في الايمان بالغيب الذي امتدح اللّه المؤمنين به بقوله :(ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب) وداخل في الايمان بالقدر ; فإن سبيل علم الخلق بما قدره اللّه أمران :
أحدهما : وقوع الشيء ، فكل ما كان ووقع علمنا أن اللّه قد شاءه ، لانه لا يكون ولا يقع إلاّ ما شاءه اللّه ، وما شاء اللّه كان و ما لم يشأ لم يكن .
الثاني : الاخبار بالشيء الماضي الذي وقع ، وبالشيء المستقبل قبل وقوعه من الذي لا ينطق عن الهوى(صلى الله عليه وآله) ، فكل ما ثبت إخباره به من الاخبار في الماضي ، علمنا بأنه كان على وفق خبره(صلى الله عليه وآله) ، وكل ما ثبت إخباره عنه مما يقع في المستقبل ، نعلم بأن اللّه قد شاءه ، وأنه لابد أن يقع على وفق خبره(صلى الله عليه وآله) كإخباره(صلى الله عليه وآله) بنزول عيسى(عليه السلام)في آخر الزمان ، وإخباره بخروج المهدي ، وبخروج الدجال، وغير ذلك من الاخبار ، فإنكار أحاديث المهدي أو التردد في شأنه أمر خطير . نسأل اللّه السلامة والعافية والثبات على الحق حتى الممات