كان وحيداً..
فى حياته..فى بيته..فى جامعته..كأى شاب يحلم بالتخرج لتحقيق الآمال التى تنتظر منه أن يحققها...كأى شاب يحلم بمن تخطف قلبه و تمضى به لغير رجعة...كأى شاب يريد الصداقة ولا يجدها فى زمن تبعثرت بقايا الإخلاص بين سراب الغش والخيانة..
يمضى أوقاته فى الجامعة وحيداً حتى فى مجلسه..ينفر منه الطلاب لإعتقادهم أنه مختل عقلياً أو لا يجد الصديق أو لأن الصديق لا يريده أصلاً...لا يكلم أى أحد لا يتعامل مع أى إنسان إلا فيما يخص المحاضرات و الدراسة...حتى ظنه كل من حوله أنه مجرد حجر متحرك و أن وراءه سر يجب عليهم أن يكتشفوه
يرى تجمعات الأصدقاء كل يوم...يتعالى ضحكهم و مزاحهم و مداعباتهم.. يرى تجمهرات الشباب و البنات فى نفس الأماكن و نفس المقاعد و نفس الأشخاص و نفس الأجواء...
و بالطبع لا تخلو أى قصة أو رواية من عنصر الإنثى..فالإنثى هى محور الجمال و اللطف لدى الرجل فى حياته..
كانت ُتعرف بالجميلة الساخطة...و لم يقتصر جمالها على عيون خضراء أو ضحكة تروى القلوب التى تتعامل معها بل لتهافت جميع شباب الجامعة عليها...أما بالنسبة لساخطة فذلك لتذمرها و غرورها على كل زميلاتها بل على أقرب الناس إليها لجنونها بأنوثتها...فهى ُترضى غرورها و كبريائها فقط بالوقوف مع أى شاب أو التكلم مع أى منهم.. جهة أخرى لم تكن تريد الإرتباط بأى شاب منهم لعلمها الشديد أنهم جميعاً يسعون لإستغلالها و لكسب الرهائن عليها و ليس منهم من يصل لدرجة الرجولة و ما تتمناه فى فتى أحلامها المرجو فكلهم لا يوصفون إلا بالتفاهة و السخافة و إنعدام الشخصية و القوة..أو ما يعجبهم فيها بجمالها أو ما شابه فكان هذا يؤلمها نفسياً و ذهنياً...
ترى هذا الشاب دائماً وحيداً صامتاً لا ينظر إليها أبداً كما أنه الوحيد الذى لم يطلب منها الصداقة أو التعرف عليها أو التكلم كما تعودت معها...فصار هذا الأمر يغيظ سريرتها جداً كيف لهذا الشاب ألا يحفى وراء قدميها و يطلب منها الرضى بإعتبارها ملكة جمال الجامعة..و قررت أن تكتشف أمر هذا الشاب الصامت الواجم...
فذات مرة عند دخوله باب الجامعة لمحته من بعيد قادماً فتركت كل زميلاتها وجرت عليه ثم نادت عليه...
البنت : إذا سمحت..أنا رهف زميلتك فى نفس القاعة..هل لك أن تضبط إلىّ ساعة الهاتف لأنى لا أفقه فى هذا النوع من الهواتف أى شىءٍ..( و إنتظرت أن ينظر إلى شعرها الذى يحمله النسيم ليسقط على أهدابها..و على عينيها التى تتلألأ كعين القط فى الليل )
الشاب بدون أى كلام أو حتى أى نظرة إليها : تفضلى هذا التوقيت المحلى للقاهرة و التاريخ كما يتوافق مع اليوم و السنة..بعد إذنك..
و بعد إنصرافه كادت أن ينفجر عقلها و إشطاطت غيظاً كيف لم ينظر عليها ؟ كيف لم يطيل الحديث معها و يتمنى أن تبقى معه و لو دقيقة ؟!... و قررت أن ترضى غرورها و تشبع كبريائها و تنتقم لكرامتها و جمالها الذى لم ينكره أى شاب من شباب الجامعة..و بدأت فى وضع الخطة للإنتقام منه فوراً..
و جاء اليوم الذى ستنقلب به موازين الحياة لدى إنسان لا يعرف فى حياته سوى الوحدة و الصمت دائماً و إكتشاف سر هذا الشاب الصامت بين الجامعة
دخل باب الجامعة ينظر فى الأرض كالعادة و ينظر إليه كل الطلاب بتعجب كالعادة...
ثم نظرت رهف لصديقها و غمزت لها كإشارة لبدء الخطة..و تقدمت رهف أمام الشاب لترتمى بجسدها عليه و تصرخ فى وجهه : ما هذه السخافة و الوقاحة أيها القذر ( و أخذت فى سيل من السب و الشتائم لإهانته على مرأى و مسمع من الجامعة )..و هو ينظر إليها و الشرار فى عينيه و ما أفجأ الجميع أن الشاب لم يتفوه بكلمة ومضت فى إهانته : و ما هذا الذى ترتديه.. حقاً إنها آخر صيحات الموضة قصر السروال و السترة الممزقة ( و الجموع من حولها تتعالى ضحكاتها )..
ثم نظر إليها و قال : إن لم يكن الإنسان بعقله و إحترامه و شخصيته فلا يستحق لقب إنسان..و إن كنتى تظنين نفسك بهذا الجمال ستنالين إحترامك لنفسك فسوف تكتشفين خداعك لنفسك يوماً ما بعد رحلة طويلة من العذاب النفسى...( ثم انصرف )
و بعد جلوسه وجد فى حقيبته سلسلة ذهب و تذكر أنها تخص تلك الفتاة وقعت فيها عندما زجرته..ثم خرج إلى الساحة فرآها تنظر فى كل مكان و كأنها تبحث عن شىء ما ثم وقف أمامها و حرك السلسلة أمامها فصرخت فى وجهه : شكراً لك و عندما أدارت رأسها لتجده هذا الشاب فصمتت و قالت شكراً لك وانصرف الشاب..
وبينما هو جالس وحيداً صامتاً سمع صوت فتاة بجانبه : أيها الحزين هلا سامحتنى على ما فعلته اليوم ؟.. جئت لأعتذر لك عما بدر منى أمام الجميع..
نظر لأعلى ليجدها رهف تلك الفتاة المغرورة ملكة جمال الجامعة...فأدار الشاب رأسه إلى الأرض و لم يرد..
و مضت رهف فى كلامها : هلا أخبرتنى ما قصتك بالتفصيل ؟
و حدثت المعجزة..و نطق الحجر و قال فى صوت يتقطع منه رنات الأنين : أنا من فقد الشمس و القمر فعاش بقية حياته فى الظلام...
فلم تفهم رهف شيئاً وقالت: ..ماذا تعنى ؟..
الشاب : أمى و أبى ينابيع الحنان و آبار الحب..سلبهما القدر منّى فى حادثة سيارة..هذه هى قصتى بكل تفصيل..( و أنخرط فى البكاء بغزارة )..
فأحست رهف بنهر من الحنان يتدفق نحوه و أخذ قلبها يدق بشدة و بلا تفكير أو دراية بمن حولها عانقته كالأم التى تحوى ولدها عند البكاء..و طلبت منه التوقف عن البكاء...و بعد أن تركته بعد محادثة طويلة استمرت ساعات و هى تحدّث نفسها طوال طريق عودتها لبيتها : أيعقل يا رهف ؟ أيعقل أن يكون هو ؟
و زميلاتها كل يوم يتابعن الموقف من بعيد و هم لا يصدقون أن يدق قلب رهف نحو هذا الشاب و من هو ليخطف قلبها بكل هذه السهولة... و صارت قصة حبهما يتعجب لها كل من هو ماضٍ وآتٍ..وتطورت العلاقة بعد أن حولت رهف حياته إلى جنة لم يكن يعلم أنه من أهلها..فكانت هى الحبيبة و الأم والأب و ما وراء العالم كله..هكذا الحب بعد أن رفضت كل الأفكار للإرتباط بأى إنسان من هذه الجامعة..هكذا الحب بعد أن كان قلبها ليس من السهل على أحد أن يخطفه إلا محترف كبير فى إختطاف القلوب..
و هكذا يتحول الغرور إلى عشق بأمر الحب و يتحول الصمت إلى سعادة بأمر الحب..
فبالحب تنهار الجبال و ُتطفأ البراكين و تشرق الشموس و تسطع الأقمار و يؤمن الكافر و يتوب العاصى...
[center]