الحكمة من وجود المتشابه في القرآن الكريم (1)
قبل ذكر بعض الحكم من وجود المتشابه في القرآن الكريم، لا بأس من بيان المراد بالمتشابه وما يتعلق بأقسامه.
تعريف المتشابه:
لغة: يقال في فلان شبه من فلان؛ أي: شبيهه، وشبهت هذا بهذا، وأشبه فلان فلانًا، وأشبه الشيءُ الشيءَ: ماثلَه، والمشبهات من الأمور المشكلات، وتشابه الشيئان: أشبه كل منهما الآخر حتى التبسا، واشتبه الأمر إذا اختلط.
يقول الراغب: "الشبه والشبيه حقيقتهما المماثلة من جهة الكيفية، والشبهة هو ألا يتميز أحد الشيئين من الآخر لما بينهما من التشابه... والمتشابه من القرآن ما أشكَل تفسيره لمشابهته بغيره، إما من حيث اللفظ أو من حيث المعنى"؛ المفردات في غريب القرآن 1/254.
يقول الإمام الزركشي في البرهان: "وأما المتشابه، فأصله أن يشتبه اللفظ في الظاهر مع اختلاف المعاني كما قال - تعالى - في وصف ثمر الجنة: ﴿ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ﴾ [البقرة: 25]؛ أي: متفق المناظر مختلف الطعوم، ويقال للغامض متشابه؛ لأن جهة الشبه فيه كما تقول لحروف التهجي، والمتشابه مثل المشكل؛ لأنه أشكل أي دخل في شكل غيره وشاكله"؛ البرهان في علوم القرآن: 2 - 69.
ويقول الفخر الرازي: "وأما المتشابه، فهو أن يكون أحد الشيئين مشابهًا للآخر بحيث يعجز الذهن عن التمييز، قال الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ﴾ [البقرة: 70]، ومنه اشتبه عليه الأمران إذا لم يفرق بينهما"؛ مفاتيح الغيب: 7 - 145.
و قد ورد لفظ المتشابه في القرآن الكريم وصفًا للقرآن كله ووصفًا لبعض آياته:
1- وصف القرآن بأنه متشابه كله؛ أي: يشبه بعضه بعضًا في الإتقان والفصاحة والبلاغة، وفي صدق أخباره وعدل أحكامه؛ قال - تعالى -: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا... ﴾ [الزمر: 23]؛ أي: "في الحسن والائتلاف وعدم الاختلاف بوجه من الوجوه، حتى إنه كلما تدبره المتدبر وتفكر فيه المتفكر رأى من اتفاقه حتى في معانيه الغامضة ما يبهر الناظرين ويجزم بأنه لا يصدر إلا من حكيم عليم"؛ تيسير الرحمن: 722.
2- و أما وصف بعض آياته بالمتشابه، فذلك مقابل للمحكم؛ قال - تعالى -: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7].
المقصود بالمحكم هنا الظاهر الجلي الذي لا خفاء في معناه ولا إشكال، وأما المتشابه، فهو ما خفي معناه، فلا يفهم إلا بردِّه إلى المحكم، وهذه طريقة الراسخين في العلم، كما قال - تعالى -: ﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ﴾ [آل عمران: 7]؛ أي: محكمه ومتشابهه، وأما أهل الزيغ، فإنهم يتمسَّكون بالمتشابه دون ردِّه إلى المحكم، "طلبًا للفتنة، وصدًّا للناس عن دينهم وعن طريق السلف الصالح، فحاولوا تأويل هذا المتشابه إلى ما يريدون، لا إلى ما يريده الله ورسوله، وضربوا نصوص الكتاب والسنة بعضها ببعض، وحاولوا الطعن في دلالتها بالمعارضة والنقض؛ ليشككوا المسلمين في دلالتها، ويعموهم عن هدايتها، وهؤلاء هم الذين ذمَّهم الله بقوله: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 7].
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "تلا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7]، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم))؛ صحيح البخاري - كتاب التفسير.
الأقوال في معنى المحكم والمتشابه:
اختلف العلماء في معنى المحكم والمتشابه على أقوال عدة:
• فقيل: المحكم ما عرف المراد منه إما بظهوره وإما بالتأويل، والمتشابه ما استأثر الله - تعالى - بعلمه كقيام الساعة.
• وقيل المحكم ما وضح معناه، والمتشابه نقيضه.
• وقيل المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهًا واحدًا، والمتشابه ما احتمل أوجهًا.
• وقيل المحكم ما كان معقول المعنى، والمتشابه بخلافه؛ كاختصاص الصيام برمضان دون شعبان
.
• وقيل المحكم ما استقل بنفسه، والمتشابه ما لا يستقل بنفسه إلا بردِّه إلى غيره.
• وقيل المحكم ما تأويله تنزيله، والمتشابه ما لا يُدرَى إلا بالتأويل.
• وقيل المحكم ما لم تتكرَّر ألفاظه، ومقابله المتشابه.
• وقيل المحكم الفرائض والوعد والوعيد، والمشابه القصص والأمثال.
• وقيل المحكم ما أجمعوا على تأويله، والمتشابه ما اختلف فيه.
من حكم وجود المتشابه في القرآن الكريم:
يعتبر وجود المتشابه في القرآن الكريم من المداخل التي دخل منها الطاعنون في كتاب الله - جل في علاه - وأجلبوا بخيلهم ورَجْلهم في ذلك، فقالوا: كيف يزعم المسلمون أن كتابهم هدى ورحمة، ونور وبيان لكل شيء، وفرقان يفرق بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال، وهو طافح بالآيات المتشابهات؟!
وقد تكفَّل العلماء بالردِّ على هذا الطعن مبينين أن وجود المتشابه في القرآن لا يخلو من حكم عظيمة وفوائد جليلة.
لكن قبل ذكر بعض هذه الحكم، أود أن أنبّه على أمر مهم، وهو أنه ليس في القرآن متشابه مطلق فيما يتعلق بما يحتاجه الناس في أمور دينهم ودنياهم؛ إذ كيف يكون القرآن الكريم هدى ورحمة ونورًا وبيانًا، بل وتبيانًا، ثم يكون فيه متشابه مطلق يخفى على كل الناس، وفي هذا المعنى يقول العلامة ابن عثيمين - رحمه الله تعالى - في شرحه على لمعة الاعتقاد: "إن الوضوح والإشكال في النصوص الشرعية أمر نسبي، يختلف به الناس بحسب العلم والفهم، فقد يكون مشكلاً عند شخص ما هو واضح عند شخص آخر... أما من حيث واقع النصوص الشرعية، فليس فيها بحمد الله ما هو مشكِل لا يعرف أحد من الناس معناه فيما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم؛ لأن الله وصف القرآن بأنه نور مبين، وبيان للناس وفرقان، وأنه أنزله تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة، وهذا يقتضي ألا يكون في النصوص ما هو مشكل بحسب الواقع، بحيث لا يمكن أحد من الأمة معرفة معناه"؛ اهـ.
فالمتشابه المطلق إنما هو واردٌ في القرآن فيما لا علاقة له بالتكليف، أو بما يحتاجه الناس في أمور معاشهم ومعادهم؛ كحقائق صفات الله - تعالى - وكُنْهها، وصفة الدابة التي تخرج في آخر الزمان، وغير ذلك.
عودًا على بَدْء، نعلم أن من أسماء الله - تعالى - الحسنى اسمه "الحكيم" الدال على صفة الحكمة، فالله - تعالى - كل أفعاله وكل أقواله - سبحانه - مبنية على الحكمة، وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد أن يكون اشتمال القرآن الكريم واحتواؤه على جملة من الآيات المتشابهات، إنما هو لحكم عظيمة وغايات حميدة.
و يمكن تقسيم هذه الحكم باعتبار نوع التشابه إلى قسمين:
• باعتباره تشابهًا مطلقًا لا يعلمه إلا الله - سبحانه.
[rtl] الحكمة من وجود المتشابه في القرآن الكريم (2)[/rtl]
1- حِكَم وجود المتشابه في القرآن باعتباره متشابهًا مطلقًا؛ أي مما لا يمكن علمه:
المتشابه المُطلَق - كما سبق - هو الذي خفي عِلمه على الناس فلا يعلمه إلا اللهُ - جل في علاه - وهذا النوع من المتشابه من رحمته - سبحانه - أنه لا يتعلَّق بما ينفع الناس في شؤون دينهم أو دنياهم، وذلك كحقائق صفات البارئ - سبحانه - وكيفياتها، سواء الصفات الذاتية التي لا تَنفك عن ذاته - سبحانه - أو الفعلية المُتعلِّقة بمشيئته، فكل هذه الصفات لا يعلم كُنهها وكيفياتها إلا المتَّصِف بها - سبحانه - أما المعاني، فمعلومة من ظواهر هذه النصوص.
ومن الحِكم من وجود هذا المتشابه المُطلَق في القرآن:
1- الاختبار والابتلاء، وتمييز المؤمن الذي لا يَجِد ما يُقابِل به هذا المتشابه إلا التسليم والانقياد والإذعان والاستسلام، فلا يؤوِّله تأويل أهل البدع الذين ضلوا في هذا الباب ضلالاً بعيدًا.
وقد بيَّن الله - سبحانه - في عدة مواضع من كتابه أنه ينزل بعضًا من القرآن؛ اختبارًا وفتنة للناس، وتمييزًا للمؤمن الصادق من المنافق المرتاب، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82]، وقوله - جل جلاله -: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 124، 125].
وقوله - جل شأنه -: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الحج: 52 - 54]، يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه شفاء العليل: "اللام هي لام التعليل على بابها في قوله: "ليجعل"، وهذا الاختبار والامتحان مُظهِر لما في القلوب الثلاثة، فالقاسية والمريضة ظهر خبؤها من الشك والكفر، والقلوب المُخبِتة ظهر خبؤها من الإيمان والهدى وزيادة محبَّته وزيادة بُغْض الكفر والشرك والنُّفرة عنه، وهذا من أعظم حِكم هذا الإلقاء"؛ ا. هـ شفاء العليل: 193.
2- ومن حِكم وفوائد وجود المتشابه المُطلَق في القرآن الكريم: التعبد بتلاوته، فيُؤجر العبد بقراءته، وإن لم يعلم حقيقة وكُنْه ما يتلوه، كما يُثاب على قراءة المنسوخِ حُكْمُه من الآيات.
3- بيان الإعجاز وإقامة الحُجَّة على الخَلْق، فكون القرآن الحكيم نزل بلسان عربي وبألفاظ عربية، ومع ذلك يشمل ما لا يَسَع أحدًا مهما بلغ من العلم الوقوفُ على حقيقته، فهذا لا شك وجهٌ من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم.
2- حِكم وجود المتشابه في القرآن باعتباره متشابهًا نسبيًّا؛ أي: مما يمكن عِلمه:
كثيرة هي الحِكم في وجود هذا النوع من المتشابه في القرآن الحكيم، من ذلك:
1- إظهار تفاضُل الناس فيما بينهم وتمييز العالم من الجاهل؛ إذ لو كان القرآن كله مُحكَمًا بحيث لا يخفى على أحد، لما حصل هذا التميز؛ لأن الكل يمكنه الوقوف على معناه من خلال ظواهر النصوص.
يقول الإمام الزركشي - رحمه الله تعالى -: "ومنها: إظهار فَضْل العالم على الجاهل، ويستدعيه عِلمه إلى المزيد في الطلب في تحصيله؛ ليحصُل له درجة الفضل، والأنفس الشريفة تتشوَّف لطلب العلم وتحصيله"؛ البرهان: 2- 75.
2- التعامل مع القرآن بأنه كل لا يتجزَّأ، وذلك برد المتشابه إلى المُحكَم، كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ [آل عمران: 7]، فسمَّى الله المُحكَم بأم الكتاب؛ أي: أصله والمرجع الذي يرجع إليه عند التشابه، وقد نقل الإمام السيوطي - رحمه الله تعالى - في كتابه الإتقان عن ابن الحصار قوله: "قسَّم الله آيات القرآن إلى مُحكَم ومُتشابِه، وأخبر عن المحكمات أنها أم الكتاب؛ لأن إليها تُردُّ المتشابهات، وهي التي تُعتَمد في فَهْم مراد الله من خَلْقه في كل ما تعبَّدهم به من معرفته، وتصديق رسله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وبهذا الاعتبار كانت أمهات"؛ ا. هـ.
3- إظهار تفاضُل العلماء فيما بينهم، فبعض الآيات المتشابهات قد تخفى على بعض أهل العلم وتنجلي للبعض الآخر؛ كما قال ربنا: ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 76]، فقد يقف العالم أمام آية من المتشابهات، ولا يجد لها مخرجًا، ويفتح الله على آخر، فتظهر له وتضح وضوح الشمس في رابعة النهار.
4- تعظيم أجر العلماء الذين يجتهدون في تفسير هذه المتشابهات، ولا شك أن هذا النوع من التفسير فيه مشقة كبيرة، حيث يبذُل المفسر جُهدَه وطاقته ووُسْعه للوقوف على مراد الله تعالى بهذه الآية، وكما يقال: الأجر على قدر المشقة.
يقول الإمام فخر الدين الرازي - رحمه الله تعالى - في تفسيره مفاتيح الغيب: "متى كانت المتشابهات موجودة، كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق، وزيادةُ المشقة توجِب مزيد الثواب"؛ مفاتيح الغيب: 7-149.
ويقول الإمام الزركشي - رحمه الله تعالى - في برهانه: "ليَحُث العلماء على النظر الموجِب للعلم بغوامضه، والبحث عن دقائق معانيه؛ فإن استدعاء الهمم لمعرفة ذلك من أعظم القرب، وحذرًا مما قال المشركون: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ﴾ [الزخرف: 22]، وليمتحنهم ويُثيبهم؛ كما قال: ﴿ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ [يونس: 4]، فنبَّههم على أن أعلى المنازل هو الثواب، فلو كان القرآن كله محكمًا لا يحتاج إلى تأويل لسقطت المحنة، وبَطَل التفاضل، واستوت منازل الخَلْق، ولم يفعل الله ذلك؛ بل جعل بعضه محكمًا؛ ليكون أصلاً للرجوع إليه، وبعضه متشابهًا يحتاج إلى الاستنباط والاستخراج ورده إلى المُحكَم؛ ليستحق بذلك الثواب الذي هو الغرض، وقد قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142]"؛ البرهان: 2- 75.
5- الاهتمام بمجموعة من العلوم الهامة التي لا بد منها لتفسير المتشابه، وأَخُص بالذِّكر علم أصول الفقه واللغة، والبلاغة والبيان والمعاني، وبعض علوم الآلة كالنحو والصرف وغيرها.
ولا شك أن معرفة هذه العلوم والإلمام بها من الضروريات لكل مَن رام تفسير المتشابه، وهذا ما يُسهِم في تأصيل هذه العلوم الجليلة والاهتمام بها غاية الاهتمام.
فكون القرآن متضمِّنًا للمتشابه يجعل من أراد بيان هذا المتشابه مفتقرًا إلى العلم بطرق التأويلات والترجيحات، وهذا بدوره يجعله مفتقرًا إلى الإلمام بهذه العلوم، التي لولا وجود هذا المتشابه في القرآن الكريم لما تَمَّ تحصيلها أو الاهتمام بها.
6- اتساع مَدارِك العلماء من أهل التفسير، فإن الإقبال على هذه المهمة الصعبة المتمثِّلة في بيان مراد الله تعالى من المتشابه، وما يُصاحبه من بذل وُسْع وجهد - لا بد أن يُثمِر اتساعًا في المدارك، ونماء في التفكير، وقوة في البصائر، وذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء.
7- ومن الحِكم في وجود المتشابه في القرآن الكريم إظهار الاستسلام، خاصة إذا علِم أن أغلب المتشابهات ليست في باب الأحكام وما له علاقة بالتكليف، وإنما تتعلَّق في الغالب بالعقائد، ومعلوم أن العقيدة لا يجوز فيها إلا التسليم؛ كما قال الإمام الطحاوي - رحمه الله تعالى - في عقيدته: "ولا تثبت قدم الإسلام، إلا على ظهر التسليم والاستسلام".
8- وقد أشار الإمام فخر الدين الرازي إلى بعض حِكم وجود المتشابه في القرآن الكريم بقوله: " لو كان القرآن محكمًا بالكلية، لما كان مطابقًا إلا لمذهب واحد، وكان تصريحه مبطِلاً لكل ما سوى ذلك المذهب، وذلك مما ينفر أرباب المذاهب عن قَبُوله وعن النظر فيه، فالانتفاع به إنما حصل لما كان مشتملاً على المُحكَم وعلى المتشابه، فحينئذٍ يطمع صاحب كلِّ مذهب أن يجد فيه ما يقوِّي مذهبه، ويؤثِر مقالتَه، فحينئذٍ ينظر فيه جميعُ أرباب المذاهب، ويجتهد في التأمل فيه كلُّ صاحب مذهب، فإذا بالَغوا في ذلك صارت المُحكَمات مُفسِّرة للمتشابهات، فبهذا الطريق يتخلَّص المبطل عن باطله، ويَصِل إلى الحق"؛ ا. هـ.
لكن هذا الكلام من الإمام الرازي لا يُسلَّم؛ بل ربما لا يَصِح، فإن كان المقصود بالمذاهب المذاهب الفقهيَّة، فهي لم تظهر نتيجة وجود المتشابه في القرآن، وإن كان مقصوده المذاهب العقدية - ولعله المراد والله أعلم - فكيف يقال: إنه لو اقتصر القرآن على المُحكَم لما ناسَب إلا مذهبًا واحدًا ونفَّر المذاهب الأخرى عنه؟
وظاهر هذا الكلام أن وجود المتشابه في القرآن هو الذي يُغذِّي هذه المذاهب العقدية، بحيث يجد أصحاب كل مذهب ما يقوُّون به رأيَهم، ويحملون المتشابه على ما يُوافَق مذهبهم، ولا شك أن هذا لا يَصِح؛ لأن معناه أن القرآن بما فيه من المتشابه يدعو إلى التفرقة في باب العقيدة التي لا يجوز فيها إلا الاجتماع، فالعقيدة تتميَّز بوحدانيتها وعدم تَعدُّدها، والحق فيها واحد، فمن ذلك رؤية الله تعالى مثلاً في الجنة، فكيف يقال: إن لكل صاحب مذهب في الرؤية دليلاً من التشابه، ونفس الشيء بالنسبة لمسائل القدر وغيرها، إذًا فلا يَصِح أن نقول:إن للجبرية أو القدرية أو الخوارج والمرجئة وغيرها ما يقوِّي مذاهبها الفاسدة من خلال الآيات المتشابهات، بل الذي يَسلُكه هؤلاء الفِرق هو ما ذمَّه الله تعالى بقوله: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ [آل عمران: 7]، وهو الذي حذَّر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (فإذا رأيت الذين يتَّبِعون ما تَشابَه منه، فأولئك الذين سمَّى الله؛ فاحذروهم)، والله أعلم.
9- ولعل من الفوائد كذلك، بذل الوُسْع لإدراك حِكم وجود المتشابه في القرآن الكريم، فكما مرَّ، فإنه - سبحانه - حكيم في أفعاله وأقواله وأحكامه، ولا جَرَم أن محاولة إدراك بعض حِكَم الله تعالى في شرعه وأقواله -ومنها هذا القرآن العظيم - مجالٌ رحْب يتنافس فيه المتنافسون لنيل الأجر والمثوبة من رب العالمين، ثم إذا لم يُدرِك العبد شيئًا من هذه الحِكم، رجع على نفسه بالعجز والضعف، واستسلم لربه موقِنًا أنه - سبحانه - حكيم.
وقد أجمل الإمام الزمخشري - رحمه الله تعالى - القول في حِكَم وجود المتشابه في القرآن، فقال في كتابه الكشاف: "فإن قلت: فهلا كان القرآن كله مُحكَمًا، قلت: لو كان كله محكمًا لتعلَّق الناس به؛ لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال، ولو فعلوا ذلك، لعطَّلوا الطريق الذي لا يتوصَّل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به، ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمُتزلزِل فيه، ولما في تقادُح العلماء وإتعابهم القرائح في استخراج معانيه ورده إلى المُحكَم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمَّة ونيل الدرجات عند الله؛ ولأن المؤمن المعتقد أنْ لا مُناقضة في كلام الله ولا اختلاف إذا رأى فيه ما يتناقَض في ظاهره، وأَهمَّه طلب ما يُوفِّق بينه ويُجريه على سنن واحد، ففكَّر وراجَع نفسه وغيره ففتح الله عليه، وتبيَّن مطابقة المتشابه المُحكَم، ازداد طمأنينة إلى معتقده وقوة في إيقانه"؛ ا. هـ.
المراجع:
• المفردات في غريب القرآن؛ للراغب الأصفهاني.
• البرهان في علوم القرآن؛ للإمام الزركشي.
• الإتقان في علوم القرآن؛ للإمام السيوطي.
• مفاتيح الغيب؛ للإمام فخر الدين الرازي.
• تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ للشيخ عبدالرحمن السعدي.
• شرح لمعة الاعتقاد؛ للشيخ ابن عثيمين.
• شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل؛ للإمام ابن القيم.
• الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل؛ للإمام الزمخشري.
• العقيدة الطحاوية.
• صحيح البخاري.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/57355/#ixzz2zngZi1ce