بسم الله الرحمن الرحيم
الشتاء ينحسر ليظهر الربيع، ثم الصيف بدرجات حرارة أعلى، ترحب بها النساء اللواتي يعانين من ظاهرة «راينود» Raynaud"s، وهي اضطراب يسبب حدوث الانقباضات في الأوعية الدموية الصغيرة عند نهايات الأطراف، لدى حدوث تغيرات في درجات الحرارة من الدفء إلى البرد.
ويؤثر هذا الاضطراب في الغالب على اليدين، وفي أحيان كثيرة على القدمين، وبشكل نادر على الأنف، والشفتين، والأذنين، مسببا فقدانها الفجائي للونها وحدوث البرد، والخدر أو عدم الإحساس، فيها. ويشيع اضطراب «راينود» أكثر لدى النساء من الرجال، ويعتبر استجابة وعائية دموية للبرد. ولدى بعض الناس، استجابة للتوتر العاطفي.
اضطراب «راينود»
يسمى اضطراب «راينود»، الذي يظهر من دون سبب معلوم، بظاهرة «راينود» الأولية أو الابتدائية، وهو يظهر بالدرجة الرئيسية لدى النساء اللواتي تقل أعمارهن عن 30 سنة، وهو عموما مثير للإزعاج أكثر من كونه معيقا للحركة.
ويمكن السيطرة عليه عادة بعدم التعرض للبرد، وارتداء ملابس للوقاية منه، مثل الجوارب والقفازات داخل المنزل أو في سرير النوم.
إلا أن اضطراب «راينود» يمكن أن يشكل خطرا أكبر عندما يكون ناشئا عن حالة مرضية. وهذا النوع النادر منه يسمى ظاهرة «راينود» الثانوية، وهي تظهر في سنوات العمر اللاحقة، وغالبا لدى الأشخاص (من الرجال أو النساء) الذين يعانون من أمراض في الأنسجة الضامة، مثل «الحَزَبْ المتصلب»، أي (تيبس طبقات الجلد) scleroderma، والذئبة الحمراء الجهازية systemic lupus erythematosus، أو أمراض المناعة الذاتية الأخرى. وهذه الحالات المرضية قد تلحق الأضرار بالأوعية الدموية؛ وتغير من استجاباتها للبرد أو للتوتر، وقد تؤدي أحيانا إلى حدوث مشاكل في إتقان الأداء، أو تقرح الجلد.
واضطراب «راينود» الثانوي يرتبط أيضا بمتلازمة النفق الرسغي carpal tunnel syndrome، وببعض أنواع المهن والأعمال (مثل تلك التي تستخدم فيها آلات اهتزازية)، وبالأدوية التي تؤدي إلى انقباض الأوعية الدموية، وبالأضرار التي تلحق بالأوعية الدموية نتيجة التدخين، أو بسبب أدوية العلاج الكيميائي.
أسباب الاضطراب
عندما يواجه الجسم البرد، فإنه يتصرف بحيث يأخذ في المحافظة على حرارة أعضائه. وتأخذ الأوعية الدموية الصغيرة في الجلد (الأوعية المنظمة للحرارة) في الانقباض، لتعيد توجيه الدم الآتي من الشرايين القريبة من السطح، نحو الشرايين الموجودة في مناطق أعمق، بهدف حماية الجسم من فقدانه للحرارة.
وتحدث لدى الأشخاص المصابين باضطراب «راينود» نفس الاستجابة، حتى عند حدوث تغيرات أقل في درجات الحرارة، إذ تأخذ الأوعية المنظمة للحرارة لديهم في الانقباض فجأة، ثم تظل منقبضة، مما يقلل من تدفق الدم إلى الجلد، الذي يتحول لونه إلى لون شاحب، ويصبح باردا.
ويتجمع الدم داخل الأوعية المنقبضة ويغدو دما ناضبا من الأوكسجين، الأمر الذي يزيد من ازرقاق الجلد. ومع مرور الزمن، فإن الأوعية تسترخي، ويأخذ الدم في التدفق فيها، ثم يبدأ الجلد في الدفء، والاحمرار، وربما ينبض.
كما قد تظهر استجابة مماثلة في الأوعية الدموية لدى الأشخاص المصابين باضطراب «راينود» الأولي، عند إفراز أجسامهم طبيعيا للهرمونات التي تفرز عادة لدى التعرض للتوتر العاطفي.
وقد عُرف اضطراب «راينود»، وأجريت عليه الأبحاث، منذ القرن التاسع عشر، إلا أن الآليات التي تقود إلى حدوثه لا تزال مبهمة، كما أننا لا نعرف لماذا يؤثر على النساء بشكل غير متناسب.
وينظم تدفق الدم في الجلد بواسطة منظومة من التفاعلات التي تشمل الإشارات العصبية، والهرمونات الدائرة فيه، وأنواع المواد التي تحررها الخلايا والأوعية الدموية .
وبعض الناس المصابين بهذا الاضطراب ربما يكون لديهم الكثير من المستقبلات الخاصة بمادة كيميائية عصبية تسمى «نوربنيفرين» norepinephrine في الأوعية المنظمة للحرارة. وتؤدي هذه المادة إلى انقباض الأوعية الدموية في حالات التوتر، أو تغير درجات الحرارة. كما أن الأوعية الدموية نفسها يمكنها أن تفرز مواد قابضة للأوعية.
وينتشر اضطراب «راينود» الأولي لدى نحو 30 في المائة بين الأقارب من الدرجة الأولى (الوالدان، الأبناء، الأخوات، والإخوة).
وقد رصدت الدراسات التي أجريت على عائلات كبيرة أصيب عدد كبير من أفرادها بهذا الاضطراب، عددا من الجينات التي ربما تشارك في حدوثه.
وتفترض حقيقة أن اضطراب «راينود» الأولي يظهر لدى النساء أكثر، عادة بين سنّي البلوغ واليأس من المحيض، حيث إن الاستروجين ربما يلعب دوره في ذلك.
التشخيص والعلاج
الكثير من الناس يشكون من برودة أيديهم وأقدامهم، ولكن هذا لا يعني أنهم مصابون باضطراب «راينود»، إلا إذا تحولت أنسجتهم إلى اللونين الأبيض أو الأزرق، استجابة إلى هبوط درجات الحرارة.
ويعتبر الفحص المجهري للأوعية الشعرية في قاعدة الأظافر nailfold capillary microscopy أحد الفحوصات للتمييز بين اضطراب «راينود» الأولي وبين الاضطراب الثانوي.
ويضع الطبيب هنا قطرة من الزيت على الجلد في قاعدة أظافر الأصبع ويدرسها تحت العدسة المكبرة للبحث عن الأوعية الدموية الشعرية التي لم تتشكل بشكل جيد.
وهذه علامة تفترض وجود مرض في الأنسجة الضامة، أي اضطراب «راينود» الثانوي. وإنْ شك الطبيب في وجود اضطراب «راينود» الثانوي، فيمكن إجراء فحوص أخرى تشمل فحصا للدم لرصد أجسام غير طبيعية (فحص مضادات الأجسام النووي antinuclear antibody test)، والالتهابات، والغدة الدرقية.
ويبدأ علاج اضطراب «راينود» الأولي بعلاجات غير دوائية. أما الاضطراب الثانوي، فإنه يسبب ـ على الأكثر ـ أعراضا شديدة، منها تقرحات الجلد، ولذلك فإنه يتطلب في العادة علاجا قويا.
خطوات وقائية
وفي ما يلي بعض الخطوات التي يجب اتخاذها لدرء أو تخفيف كلا النوعين من هذا الاضطراب:
- احمِ نفسك من البرد. إنْ كان البرد شديدا، لا تخرج. وإنْ خرجت، لا تدثر يديك وقدميك جيدا فحسب، بل وكل جسمك ورأسك (فتعرض الجسم كله إلى البرد القارس قد يقود إلى حدوث نوبة، حتى وإنْ كانت اليدان دافئتين).
ارتدِ طبقات من الملابس، وملابس داخلية دافئة، ولفافة حول الرقبة، وقبعة تغطي الجبهة (الرياح على الجبهة قد تقود إلى نوبة من اضطراب «راينود»)، وجوارب مبطنة، وقفازات دافئة. غطِّ رسغيك. دفِّئْ سيارتك قبل سياقتها في أيام البرد.
وفي المنزل البس كل الملابس التي تبقيك دافئا. خذ معك سترة أو كنزة صوفية أثناء ذهابك إلى أي من المواقع الترفيهية المكيفة الهواء. احْمِ يديك عندما تضع، أو تأخذ شيئا من المجمِّد «الديب فريزر).
- تجنب دخان السجائر.. فالنيكوتين والمواد الكيميائية الأخرى في السجائر بمقدورها التسبب في حدوث انقباض حاد في الأوعية الدموية، وكذلك إلحاق الضرر المزمن بالأوعية الدموية. > حاذر من تناول بعض الأدوية.. فبعض الأدوية قد تسبب تضيقا في الأوعية الدموية المحيطية، ومنها مزيلات الاحتقان الحاوية على «فينيلفرين» phenylephrine أو «سودوفيدرين» pseudoephedrine، أو حبوب الحمية الغذائية، أو أدوية الصداع النصفي (الشقيقة) الحاوية على «إيرغوتامين» ergotamine، أو مستحضرات الأعشاب الحاوية على «إيفيدرا» ephedra، أو دواء ضغط الدم العالي «كلونيدين» clonidine (كاتابريس Catapres).
استشر طبيبك حول استخدام هذه الأدوية. كما أن الكافيين يحفز على حدوث اضطراب «راينود» لدى بعض الأشخاص، فحاول تجنبه؛ كي ترى مدى الفائدة. > تحرك بسرعة لإنهاء النوبة.. فحالما يبدأ مشهد نوبة اضطراب «راينود»، توجه فورا لارتداء الملابس الدافئة.
اغسل يديك وقدميك بماء دافئ (وليس حارا). ضع يديك تحت إبطيك. أدر ذراعيك حواليك بسرعة، فذلك سيساعد على تدفق الدم إلى أصابعك.
- تحكم في التوتر. الحزن العاطفي قد يقود لدى بعض المصابين باضطراب «راينود» الأولي، إلى التحفيز على حدوث نوبة له أو إلى التسريع بحدوثها لاحقا.
ولذلك، فإن وسائل الاسترخاء، مثل التنفس العميق أو التأمل، قد تساعد في تقليل عدد النوبات وشدتها. وإنْ ظل التوتر العاطفي مستمرا، حاول استشارة أحد الاختصاصيين في الصحة العقلية والنفسية.
- إجراء التمارين. التمارين المنتظمة غالبا ما يوصَى بها للأشخاص المصابين باضطراب «راينود» الأولي، لأنها تحسن حركة الدورة الدموية، وتخفف التوتر، وتحسن الصحة عموما، إلا أن عليك أن تتفادى الأنشطة التي تؤدي إلى خطر حدوث خدر في أصابع يديك أو قدميك أو تعرض اليدين والقدمين إلى أضرار.
ويمكن وضع النتروغليسرين على الجلد لمنع انقباض الأوعية في اليدين أو القدمين، ولشفاء تقرحات الجلد.
والأدوية الأخرى المساعدة هنا هي مثبطات الإنزيم المحول للأنجيوتنسين ACE inhibitors، وحاصرات مستقبلات الأنجيوتنسين angiotensin-receptor blockers التي توسع الأوعية الدموية، أي أنها تعاكس عمل «نوربينفرين» القابض للأوعية الدموية.
وفي حالات اضطراب «راينود» الثانوي، فإنه قد تكون هناك حاجة لتناول أدوية أخرى لعلاج الحالات المرضية التي أدت إليه.
«التغذية الارتجاعية البيولوجية».
تفترض أبحاث علمية أن الأشخاص المصابين باضطراب «راينود» يمكنهم أحيانا التحكم في درجة حرارة جلدهم، وفي تدفق الدم في أوعيتهم الدموية المحيطية بتوظيف وسيلة سلوكية، مثل «التغذية الارتجاعية البيولوجية» biofeedback (التي يقوم فيها الشخص بتدريب نفسه على استرخاء العضلات، وتحمل الألم، وتغيير درجة حرارة جسمه.. وما شابه)، أو التدريب الداخلي الذاتي autogenic training.
وفي وسيلة «التغذية الارتجاعية البيولوجية» فإن أطراف أصابعك المرتبطة بمجسات أو مستشعرات، تقوم بـ «التغذية الارتجاعية» للمعلومات حول مجهوداتك الواعية لتغيير درجة الحرارة في أصابعك. أما وسيلة التدريب الداخلي الذاتي، فإنها تعلمك على كيفية الاسترخاء عبر أحاديثك (أو إيحاءاتك لنفسك)، عن الدفء، مثل قولك «إني أشعر بالدفء».
علاجات أخرى
وفي الحالات الشديدة التي يزداد فيها اضطراب «راينود» سوءا، فإن الأطباء قد يستخدمون وسيلة تسمى sympathectomy التي يتم فيها إغلاق الأعصاب (في الجهاز العصبي السمبثاوي)، التي تحفز الأوعية الدموية على الانقباض في المواقع المصابة، أو إزالتها جراحيا، أو بحقنة طبية.
وتستخدم هذه الطريقة فقط في الحالات الاستثنائية، لأنها لا تقدم دائما تخفيفا نهائيا للحالة، كما أنها تصاحب بمضاعفات خطيرة. حاول أن تتذكر أن أكثر حالات اضطراب «راينود» يمكن السيطرة عليها بوسائل المحافظة والأدوية. وإنْ كنت تعتقد أنك مصاب به؛ فحاول استشارة طبيب اختصاصي.
تشريح ظاهرة «راينود»
في ظاهرة «راينود»، تصبح الأصابع بيضاء (A) بعد أن تأخذ الشرايين الصغيرة في الأصابع arterioles في الانقباض بشدة، الأمر الذي يحد من تدفق الدم إلى الجلد. ومع نضوب الأوكسجين داخل الدم؛ تأخذ الأصابع بالازرقاق (B) وتغدو مؤلمة.
ومع مرور الزمن، تسترخي الشرايين الصغيرة في الأصابع، ويبدأ الدم في التدفق مرة أخرى، مدفئا الجلد، ومحولا إياه إلى اللون الأحمر (C). وتبدأ التغيرات عادة في أصبع واحد، ثم تنتشر بشكل متناظر في كلتا اليدين.