فِي انْتِظَارِ.. الْغُرُوبِ..!!
هسهسات الرِّيح تمرُّ من حولها كالطيف، همسٌ ناعِمٌ
يُهَفْهِفُ عَلى نبضها المُتعب، تجْلسُ على أهدَاب غُربتها، تتفحِّص وَهَجُ
الذكريات الآبق، تشهدُ الفَجرَ الذَّائِبَ، تسْتَرجِع الأسْماءَ، مُستأنسة
بإبريق قهْوتها
من أجْلهم ظَلتْ ضَارِعَة فِي
الحَنان؛ نازقَةَ الهَمْسِ، تَغْتَالُ الهُدوءَ في وحْشتها، تهرب من صهْد
أسئلة تُحاصرها، أين أبناؤك؟ لماذا أنت هنا وحدك؟متى يعودون؟ تخَطَّتْ مِنَ
العُمْرِ الثمَانين، طال بها المُكوث، الرُّوح تتلظى في بيتٍ مهجور؛
يتنامى في داخلها اليأس، صمدَتْ من أجْلهم.. قاومت.. كبروا
..تزوّجوا..أنجبوا..رحلوا، تساقطت أعمدَة البيت، تصدّعت الجدران، في صبحها
تسأل، في مسائها تشرب الوجع، تُصافح الوجوه بعينين زائغتين ملتهبتين حنانًا
وشوقًا وانتظارًا ..تذكرهم..تستعطفهم..القلب في هيَّام وصبراه، تُحَرِّك
لسانها تلوكه، تُرطّب شفتيها الظامئتين؛ ترتشف الزفرات لتسترجعَ شيئًا من
الماضي، تلتفت متأمّلة، تغُوصُ في بحار الحُزن، تعيشُ الغربة على ضفاف
الذكريات، ضجيجُ الصَّمتِ ينهشُ كبْريَاءهَا..أوصابُ السنين الضائعة
تؤلمُها، جروحٌ نازقَة تنتظر من يُداويها، تُرسل دندنْة لتعلن أنّها هُنا،
تطردُ أشباحًا استقرت بين الجدران، تمتشقُ عصاها..تقفُ بالباب مُرحبة،
يُحييها الكبار والصغار، تحتفظ بتلك الرِّسالة في صدرها،في الرِّسالة
إقصَاءٌ منَ الحَياةِ ولا تَبُوحُ، تستعيدُ أنفاسًا بحُرقة الدَّمْع،
تبتهجُ بالخَوف، تُعاركُ الشَّوق بكاءً أخرسًا، يشدُّها الحنين لواعجَ،
هسهسات الرِّيح تمرُّ من حولها كالطيف، همسٌ ناعِمٌ يُهَفْهِفُ عَلى نبضها
المُتعب، تجْلسُ على أهدَاب غُربتها، تتفحِّص وَهَجُ الذكريات الآبق، تشهدُ
الفَجرَ الذَّائِبَ، تسْتَرجِع الأسْماءَ، مُستأنسة بإبريق قهْوتها،
تُخاطب القِطَطَ..تُطْعِمُها.. يَلوحُ في الأفُق بصِيصُ أملٍ..تذكر الله
وتُصلِي، تَتَهَشَّمُ الكلماتُ، تتناسل جُرعَاتِ اليأسِ، تتسمَّر عَينَاهَا
فِي الأفُقِ، تُجِيب عن أسئِلة تؤْرِقُها..إيه.. المبحُوثُ عنهم كانوا هنا
ذات يوم ورحَلوا، تعدُّهم عدًا.. صاروا ذكرى، ألَمْ يَأنِ لَهُمْ أَنْ
تَخْشَعَ قُلُوبُهُم، تفزع قائلة: هل يعُودُون؟مَتَى؟ ليْس الآنَ.. ولا غَد
ولا بعدَ غدٍ، إنَّهم لايعُودُون، رَانَ على قلوبِهِم، أخذتهم العزَّة
بالإثْمِ.. فهُم لايتذكَّرون، تُخْرج الرِّسالة..تقلبُها..تُعيدُ قراءَتها
"..سَلِّمِي مَفَاتِيحَ الْبَيْتِ لِحَامِلِ الرِّسَالَةِ، هُوَ الَذِي
يَتَولَى تَرحِيلُكِ إلَى دار العجزة لقضاءِ مَا تَبَقَى مِنَ
الْعُمْرِ..وإن شئتِ ابْحَثِي عن مَأوَى آخرَ.. فالبيت بِعْنَاه..." تشيحُ
بوجْهِها الشَّاحب..تتَنَهَّدُ..تنتفضُ غَاضِبة باكيّة.. يُنَهْنِهَا
الشَّوقُ..ماقصَّرْتُ في حقهم أبدًا..من أجلهم عشتُ شَظَفَ العَيْش
وتحَمَّلتُ..لكن..لماذا هاجروها.؟.ياللخيبة..! حتى التحيّة بخلوا بها..من
أجلهم انتظرت السَّنوات العِجَاف..!غفرتُ لهم..غفرتُ..هم أبنائي.. خَجَل
صاحب الرسالة مِن نفسِه، لم يتفوه بكلمة، لم يقل أنَّ البيتَ له، صار
يتردَّدُ عليها، يُطعِمها ويُسقِيهَا، مِسْكينة هي طيبة مسالمة، تسأل: متى
يذهب بها إلى دار العَجَزة ؟ تتلطف.. تترجاه أن لا يفعل..! تعِدُهُ
وتُمَنِيهِ..بأنَّهَا سترحَل..!قلبها يحدِّثها بأنّها سترحل.. ما أشدَّ
تعَاسة عُقُوقَ الأَبْنَاءَ..! ما أصبرها من أمِّ على إكْرَاهاتِ الزَّمن!
يَبست أغصانُ دوحتِها؛ طال بها الانتظار.. وخيبتاه..! ذبلت الأوراقُ
واصفرَّت؛ عبثت بنضارتها رتابة الأيَّام، أتْعَبَهَا السُّهاد، لم يعُد
يُغْمَضُ لها جَفنٌ مُذْ أنْ استلمَتْ الرِّسالة.. هِي تقفُ على عتبة
العُمر حزينةً تنتظرُ، تلملم ماتبقى لها من أنفَاسٍ، تَندسُّ فِي بعْضِها
كَفَراشَةِ الشِّتَاءِ؛ تَمُدُّ عيْنيْهَا المُتعبتَين إلى السَّمَاءِ..
تَنْتظرُ الغُروبُ..وَرَحْمَةٌ مِن اللهِ.. !