الوسيلة والشفاعة
وأما تفضيله صلى الله عليه وسلم بالشفاعة والمقام المحمود فقد قال تعالى {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} واتفق المفسرون على أن كلمة {عَسَى} من الله واجب قد اختلف في تفسير (المقام المحمود) على أقوال:
أوَّلها - ورجَّحه الفخر الرازي وأجمع عليه المفسرون - كما قاله الواحدي:
أنه مقام الشفاعة ووردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى - كما في
البخاري من حديث ابن عمر قال (سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المقام المحمود فقال: هو الشفاعة) وفيه أيضاً عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن
الناس يصيرون يوم القيامة جثُي - أي جماعات - كل أمة تتبع نبيًّها يقولون:
يا فلان اشفع لنا حتى تنتهي الشفاعة إلىَّ فذلك المقام المحمود) ومما يؤيد هذا الدعاء المشهور (وابعثه مقاماً محموداً يغبطه فيه الأولون والآخرون)
القول الثاني:
قال حذيفة(يجمع الله الناس في صعيد واحد فلا
تُكلم نَفْسٌ فأوَّلُ مدعوِّ محمد صلى الله عليه وسلم فيقول لبيك وسعديك
والخير في يديك والشرُّ ليس إليك والمهتدي مَنْ هديت وعبدُك بين يديك وبك
وإليك ولا ملجأ منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك ربَّ البيت) قال: فهذا
هو المراد من قوله {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً}[1]
[
القول الثالث:
مقامٌ تُحْمَدُ عاقبته فإن قلتَ: إذا قلنا بالمشهور أن
المراد بالمقام المحمود الشفاعة فأي شفاعة هي؟ فالجواب: أن الشفاعة - التي
وردت في الأحاديث في المقام المحمود - نوعان:
النوع الأول: العامة في فصل القضاء.
والثاني في الشفاعة: في إخراج المذنبين من النار لكن
الذي يتجه ردّ هذه الأقوال كلها إلى الشفاعة العامة فإن إعطاءه لواء الحمد
وثناءه على ربِّه وكلامه بين يديه هي صفات للمقام المحمود الذي يشفع فيه
ليُقضى بين الخلق وأما الشفاعة في إخراج المذنبين من النار فمن توابع ذلك
قد جاءت الأحاديث التي بلغ مجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي
المؤمنين: فَعَنْ أم حبيبة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(أُرِيتُ
ما تَلْقَى أمَّتي من بعدي وسفك بعضهم دماء بعض فأحزنني وسبق لهم من الله
ما سبق للأمم فسألت الله أن يؤتيني فيهم شفاعة يوم القيامة ففعل) في حديث
أبي هريرة (لكل نبيٍّ دعوة مستجابة يدعو بها وأريد أن أخبئ دعوتي شفاعة
لأمتي في الآخرة)وفي رواية أنس(فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي) وهذا من مزيد
شفقته صلى الله عليه وسلم علينا وحسن تصرفه حيث جعل دعوته المجابة في أهم
أوقات حاجاتنا جزاه الله عنا أحسن الجزاء قد قال النووي الشفاعات خمس:
الأول: في الإراحة من هول الموقف
والثانية: في إدخال قوم الجنة بغير حساب والثالثة: في
إدخال قوم حُوسبوا واستحقوا العذاب أن لا يعذبوا والرابعة:في إخراج من
أُدخل النار من العصاة والخامسة: في رفع الدرجات في الجنة وأما تفضيله صلى
الله عليه وسلم بأنه أول من يقرع باب الجنة وأول من يدخلها: ففي صحيح مسلم
في كتاب الإيمان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنا أكثر الناس تابعاً يوم القيامة وأنا أول مَنْ يقرع باب الجنة) وفي الصحيح أيضًا يقول صلى الله عليه وسلم (آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد فيقول: بك أُمرت لا أفتح لأحدٍ قبلك) وهذه
الأولية تنالها الأمة المحمدية أيضًا إكرامًا لنبيها صلى الله عليه وسلم
فهم أيضًا أو من يدخل الجنة من الأمم - كما جاء في صحيح مسلم - قال صلى
الله عليه وسلم (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة) وعند الطبراني في الأوسط والدار قطني عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنَّ الجنَّةَ حُرِّمَتْ على الأنبياء كلهم حتى أدخلها وحرِّمت على الأمم حتى تدخلها أمتي)
وأما تفضيله صلى الله عليه وسلم بالكوثر فهو ثابت في الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم قال: إنه نَهرٌ وعدنيه ربِّي) وقد
سُمِّيَ بالكوثر لكثرة مائه وعظم قدره وخيره قال الحافظ ابن كثير: قد
تواتر - يعني حديث الكوثر - من طريق تفيد القطع عن كثير من أئمة الحديث
وأما تفضيله صلى الله عليه وسلم في الجنة بالوسيلة والدرجة الرفيعة
والفضيلة فروى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما
يقول ثم صلوا عليَّ فإنه مَنْ صلَّى عليَّ صلاة واحدة صلَّى الله عليه بها
عشرًا ثم سَلُوا الله لِيَ الوسيلة فإنها منزلةٌ في الجنة لا تنبغي إلا
لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لِيَ الوسيلة حلَّتْ عليه
الشفاعة) والوسيلة درجة عند الله عَلَمٌ عَلَى أعلى منزلة في الجنة
وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وداره في الجنة وهي أقرب أمكنة
الجنة إلى العرش ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق عبودية
لربِّه وأعلمهم به وأشدهم له خشية وأعظمهم له محبَّة كانت منزلته أقرب
المنازل إلى الله وهى أعلى درجة في الجنة وأمر صلى الله عليه وسلم أمته أن
يسألوها له لينالوا بهذا الدعاء الزُّلفى وزيادة الإيمان
[1] رواه الطبراني قال ابن منده حديث مجمع على صحة إسناده وثقة رجاله