كان ذلك الصباح صباحا غير عاديا.. استيقظت على غير عادتي باكرا.. بقيت لبرهة في سريري احاول ترتيب افكاري و ما يمكن ان يحدث هذا اليوم..لكن استمرار توارد الافكار على مخيلتي سبب لي بعض الازعاج الذي لاارغبه في يومي هذا .. فوثبت مسرعة من الفراش .. فتحت النافذة على مصراعيها لاتنشق هواء الصباح الندي.. كان الربيع قد حل مبكرا هذه السنة بامطاره الخفيفة الدافئة .. و تفتحت براعم الازهار قبل اوانها .. و كست الاشجار قطرات ندى صباحية تلألأت تحت اشعة شمس رقيقة فبدت كأنها نجوم صغيرة فوق الروابي ..
ضممت يدي على صدري عندما لفح جسمي برد رقيق عطر .. و رغم ذلك لم ابرح مكاني من النافذة .. بل وجدت نفسي افكر في الضيوف الذين سيحلون على ببيتنا هذا المساء في زيارة غير معتادة .. في الواقع لم اكن احتاج لكبير عناء لاعرف سبب الزيارة .. و مع ذلك فقد كان قلبي ينبض بشدة .. و الهواجس و الاحلام لم تغادر مضجعي طوال الليل..
اغلقت النافذة وجلت ببصري في انحاء الغرفة .. اختي ما زالت نائمة.. فاليوم يوم اجازتها.. اما انا.. فقد تركت الدراسة منذ امد بعيد.. و لم اعد اكترث كثيرا للايام.. فكلها سواء.. الا ان هذا اليوم .. ليس بطبيعة الحال كباقي الايام..
لا اعرف سبب هذه الفرحة و اللهفة التي تكاد تقفز من بين اضلعي.. حتى و ان كانت هذه الزيارة خصيصا من اجلي.. فهذا ليس امرا جديدا علي.. فمنذ تفتحت انوثتي و الاسر تتوافد على بيتنا طالبة ودي و رضاي.. لكني لم اهتم و لم اكترث يوما .. لاني لم اكن قد وجدت ما اصبو و ما اطمح اليه في كل من تقدم الي..
خطوت قليلا في الغرفة.. فتحت خزانة ملابسي .. جلت ببصري بين الثياب.. ترى اي ثوب يليق بيوم كهذا؟؟؟
اقفلت الخزانة.. ووقفت امام المراة اتامل نفسي.. و ابتسمت في رضى تام.. حقا اني الان اقترب من السادسة و العشرين من عمري.. الا ان ملامحي لم تتغير.. بل زادت فتنة وجمالا.. كان وجهي مزيجا مرهفا من ملامح دقيقة بالغة الفتنة و رثتها عن امي ذات الوجه النضر.. و العينان واسعتان اخذت لونهما عن ابي.. فكانتا خضراوتان صافيتان ليس فيهما اي مسحة عسلية .. مرصعتان باهداب طويلة سوداء مطبقة قليلا عند اطرافهما..
تعودت منذ صباي ان اسمع الجميع من حولي يشيد بجمالي و فتنتي.. و كانت امي اكثر الناس شغفا بما احمله من صفات.. ربما لانها ترى في وجهي صباها و شبابها بسبب ما احمله من ملامح تشبهها.. و قد كانت اكثر الناس تدليلا لي.. فكنت ان طلب مني والدي ان امسك كتابا.. او انجز واجبا.. تملصت من ذلك بالبكاء.. فتهب والدتي تدافع عني.. و تقول لابي:(هل يهون عليك يا رجل ان تجعل هذه العيون تذرف الدموع؟؟ ابنتي لا تحتاج لدراسة لتكون سيدة مجتمع راقية و مميزة.. يكفي جمالها الاخاذ.. و سترى كيف ساجعلها تتزوج اكثر الرجال غنى .. و تقترن بارقى العائلات في البلد.. و تعيش في افخم البيوت..)
كان كلام والدتي يعشش في فكري كما تعشش العناكب في البيوت المهجورة.. لم اهتم يوما بالدراسة.. بل و تركتها و انا مازلت في المرحلة الاعدادية..و كنت احتقر و اسخر من كل من حاول التقرب و التودد الي.. فانا مؤمنة اني لن اقترن الا بالرجل الذي تذكر صفاته و مميزاته والدتي..
كل اهتمامي كان في احدث طراز الفساتين.. و قصات الشعر.. و كيف اثير اهتمام و اعجاب من حولي..
لا انكر اني نشأت على بعض الانانية.. و ربما بعض الانانية المفرطة.. فلم اكن اطيق رجل يحب او يتغزل في غيري.. و لم اكن استحمل ان ارى فتاة تلبس ثيابا اكثر اناقة مما البسه.. كنت في كثير من الاحيان احس ان والدي يضيق ذرعا بطلباتي غير المتناهية.. باصراري على ان احصل على اي شيء اريده مهما كلفه اكثر من طاقته..و كانت والدتي باستمرار تؤنبه ان ابدى اعتراضا.. فيقبل على مضض.. و باستياء واضح مما يحدث حوله.. لكنه لا يستطيع مواجهة والدتي ذات الشخصية القوية.. و الطبيعة العنيدة التي تتغلغل في اعماقها كاغلب سكان جبال الريف المنحدرة منها..
فكان والدي يجد ضالته في اختي التي تصغرني بخمسة اعوام.. ذات الطبع الهادئ.. و الشغوفة مثله بالقراءة و الدراسة.. فتراهما غالبا مع بعض يتابعان الاخبار او البرامج الحوارية.. او يناقشان كتابا.. فكنت انظر اليهما دائما بملل.. و لا اطيق ان اجلس معهما ابدا.. و لا اقبل ان ارافقهما لاي مكان..
كنت اتمنى في هذا اليوم المميز.. و عندما ياتي الضيوف لزيارتنا.. ان يكف ابي عن الحديث فيما تعرضه قنوات الاخبار.. و ما يتعرض له العالم من فتن و ثورات.. لانه ان فتح المجال لهذه المواضيع.. فلن يكف عن ابداء وجهة نظره و تحليل ما يجري باستفاضة.. و ستضيع الامسية التي ارجوها مميزة في كلام ممل لا اطيقه و لا ارغب بسماعه..
لكن ما كنت اخشاه.. هو ما حدث..
ما ان حل الضيوف.. و قدم الشاي.. حتى فتحت مواضيع الساعة كلها.. و لم تبق مشكلة في اي طرف من اطراف الارض لم تطرح حتى خلت نفسي في ندوة او مؤتمر قومي..
بل تجاوز الامر هذا.. و تشعب لمناقشة كتب و اطروحات.. و مقالات الصحف.. و كم كنت مغتاظة من اختي عندما جلست بهدوئها المعتاد تدلي بدلوها في الموضوع.. و قد قررت اني ان لم اكن استطيع ان احاسب ابي على فعلته هذه.. فان لاختي حسابا عسيرا معي..
في هذا الوقت.. كانت عيناي تكاد لا تفارق وجهه.. اكيد يحاول تمالك اعصابه ليتابع كلام والدي..انه حلمي الذي حلمته لسنوات طويلة..
فيه كل الصفات التي كانت تحفزني والدتي لاظفر بزوج يملكها.. فهو سليل اسرة معروفة بعراقتها و غناها و ثقافتها.. و معروف لدى الجميع بطيب اخلاقه و ادبه..هذا بالاضافة لوسامته المبهرة التي فتنت بها لحد الجنون.. و لطالما كنت امر بجانبه و اسلم عليه و انا ارخي باهدابي و ارسم ابتسامة فاتنة لعلعا تأسر قلبه.. و تشعل نيران الحب و الوجد في كيانه كما يحدث مع كل شاب تقع عيناه علي.. لكن يبدو ان حالة الوجد هاته تحركت لديه بعد ان كدت ان افقد الامل..
و هاهو و اهله يحلون ببيتنا اخيرا.. ليحققوا الامل الذي كنت اصبو اليه منذ فترة طويلة.. و كم سعدت و اشرقت وجنتاي عندما سمعت والدته تغير موضوع المناقشة.. و تبدأ في الثناء على اسرتي و اخلاقها و سمعة بناتها الطيبة.. و انهم سعداء بالاقتران بهذه الاسرة.. كان قلبي يكاد يقفز من مكانه فرحا و زهوا .. اخيرا سيتحقق حلمي الذي كنت ارعاه لسنين طويلة.. اخيرا جاء الانسان الذي يستحق جمالي.. و الذي سيحملني لعالم طالما حلمت به.. لم يذهب ترتيب امي و تخطيطها لمستقبلي سدى.. فذا فعلا هو الرجل الذي خلق من اجلي.. و من اجلي فقط..
لكن .. ما سمعته من كلام بعد هذا.. جعلني احس باغماءة خفيفة.. حاولت بعدها ان اتمالك نفسي.. لم اصدق ما اسمع!!!جاءوا يطلبون اختي للزواج؟؟!!!اختي؟!!!!اختي التي تصغرني باكثر من خمس سنوات!!اختي التي لا تحمل اي صفة من صفات الجمال التي احملها انا !!اختي التي لم تهتم يوما بملابسها و لا باناقتها.. و ضلت لسنوات عدة تلبس راضية عن طيب خاطر ما يصغر و ما أمله من فساتيني و ثيابي؟!! و لولا طولها الذي فاق طولي لكانت لحد الان مازالت تلبس ما يفيض عني من ثياب!!
لم اكن مصدقة ما يحدث امامي.. و ما يقع في اذني من كلام..كنت متأكدة ان ملامحي ظلت جامدة.. و لم يلحظ عليها احد اي تغيير.. كنت ابذل مجهودا جبارا حتى لا يلحظوا علي شيئا.. لكني كنت على يقين انهم لو دققوا الي النظر.. فسيجدون لوني قد امتقع.. و شفتاي ترتعشان و قد هرب منهما اي لون..
في هذا المساء.. و لاول مرة.. عندما اوت اختي الى فراشها و جلست تتصفح كتابا في يدها كعادتها.. وجدتني اتأملها.. تعودت دائما ان اتامل نفسي فقط.. اكاد لا اشعر بوجودها بحياتي.. فنحن لم نكن يوما مقربتين من بعض بسبب تنافر طباعنا و احلامنا و اهدافنا..
لكني اليوم.. وجدت نفسي اتامل اختي الوحيدة.. لاول مرة ارى انها جميلة.. ملامحها هادئة..عيونها ليست في جمال لون عيني.. و لا في اتساعها.. لكن فيهما صفاء و طيبة.. ووجنتاها دائما تعلوهما حمرة خفيفة تزداد عندما تنغمس في عمل ما.. شعرها العسلي الناعم في لون عينيها يعطي لوجهها الابيض بهاء لم الحظه من قبل..
كانت مشاعر متناقضة تنغرز كسكاكين في صدري.. لاول مرة احس اني فعلا كنت بعيدة جدا عن اختي.. و انها اطيب و اجمل مما كنت اتصور..
شعرت اني اتمنى ان اسرع اليها و اضمها و ابارك لها هذه الخطوبة السعيدة.. لكن كانت اشياء كثيرة داخلي تكاد تمزق اضلعي.. و تسبب لي عذابا ما بعده عذاب.. حلمي الذي ضاع.. نظرة الشفقة التي سيلفح بها الناس وجهي اذا علموا ان اختي الصغرى.. اختي التي تقل عني جمالاو فتنة ستتزوج قبلي .. كيف لي ان احتمل كل هذا؟؟ كيف لي ان اطيق شماتة البنات اللواتي كنت دائما اتعالى عليهن بجمالي و انوثتي الطاغية؟؟!!
كنت اتمنى ان اصرخ بملء صوتي.. كنت اتمنى ان اضع راسي بين كفي و ابكي بشدة.. لكن.. ذلك الشعور الطاغي بالعناد الذي ورثته عن والدتي.. يجعلني لا ارضى بالهزيمة.. و يدفعني لانشد حلا يخرجني من مأزقي هذا..
بحثت بين الارقام التي تحفظها ذاكرة هاتفي.. ضغطت رقما و تسللت من غرفتي الى فناء البيت..
عندما سمعت صوته ياتيني عبر الهاتف.. تمنيت الموت افضل مما ساقدم عليه.. لكني تماسكت .. و بعبارات مختصرة.. و كلمات جعلتها تبدو فيها لهفة و فرحة.. اخبرته اني موافقة على طلبه .. و اني مستعدة للزاج به.. و يبدو ان المسكين لم يصدق ما يسمع .. فحتى الامس عندما كان يكاد يركع تحت قدمي طالبا ان اوافق على الاقتران به كنت انفر منه مشمئزة..
لكن اليوم.. انا من طلبته.. بدا لي صوته كانه حصل على نجمة من السماء .. و اتفقنا على اقرب وقت ليتم كل شيء..
عندما اقفلت خط الهاتف شعرت بزهو خفي.. ساتزوج قبل اختي.. و لن اسمح لاحد بان يتطلع الي باشفاق يوم زفافها.. صحيح انني رفضت مرارا و تكرارا طلبه للزواج.. و كنت انفر من شكله غير المتناسق.. و ملامحه التي تفتقر لادنى صفات الوسامة.. لكني الان اقبل ..
لم يعد هناك الكثير من الوقت لانتقي كما كنت افعل في السابق.. فلطالما رفضت شبابا تحلم بهم بناتا كثيرة..و كان رفضي غالبا بايعاز من امي.. لكن مع توالي السنين اصبح عدد الذين يتقدمون يقل.. و ايضا مستواهم الاجتماعي ينزل..
لقد كان وهما جميلا و براقا ذاك الذي غرسته امي في مخيلتي.. و للاسف تلقفته برحابة صدر.. و صدقته لسنوات عديدة .. و كانت النتيجة اني وصلت مشارف الثلاثين من العمر دون ان اتزوج..
و كان من اتصلت به قبل قليل اخر من تقدم.. لم ينه دراسته مثلي.. جمع ثروة بسيطة من تهريب السلع بين سبتة و باقي المدن المغربية.. فتح بعدها محلا لبيع الاحذية يظل قابعا فيه طوال النهار.. كنسناس لا يغادر جحره..
كنت لا اطيق نظراته المفعمة بالحب لي.. بل كنت احيانا اتساءل كيف تأتيه الجرأة للتعبير عن مشاعره تجاه فتاة مثلي.. بل كدت اصعق عندما وجدته يتقدم الي..
دخلت غرفتي بعد هذه المكالمة الملحة.. وجدت اختي قد بدات تغفو.. كنت اشعر ببعض النصر المرير.. رميت بجسمي المنهك على سريري.. احسست بقشعريرة في كل انحاء جسدي.. جذبت الغطاء و تكورت على نفسي حتى ضممت ركبتاي.. وجدتني ابكي في صمت وسكون وسط ظلمة الليل.. ومع ذلك.. كنت امني نفسي بغد جديد.. تشرق فيه شمس جديدة.. يطغى ضوؤها الساطع على هذه الظلمة التي استشعرها في سويداء قلبي.. و يتسلل دفؤها لاطرافي المتجمدة.. فيبعث فيها دماء لا عهد لي من قبل بصفائها و نقائها..