1. الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين وترك أمته على محجة ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وبعد اتم واختم موضوعي السابق تاويلات غير صحيحة وقد ذكرت الايات المؤولة على غير الحقيقة وها انا اليوم اذكر الحديث المؤل على غير الحقيقة وقد داب شرذمة من الناس التشدق به في كل الاماكن والمناسبات وعبر شاشات التلفاز وكانت المناسبة هي وضع دستور مصر الجديد هؤلاء الشرذمة هم انقسهم الذين اقطتفوا جزء من الاية السابقة واخرجوها من سياقها لخدمة اغراضهم الدنيوية وكذلك فعلوا بالحديث الشريف فاخذو ايرددونه في كل المحافل حتى ظن جهلة الناس بصدق مايدعون اليه والحديث هو على النحو الذي ذكره هؤلاء ( انتم اعلم بشئون دنياكم ) وقد تجاهلوا اكماله ومناسبة قوله وتفسيره ليوعزوا الى الناس ان الله تعالى وكل لنا ان نضع قوانيننا بانفسنا لاننا ادرى بانفسنا وان الشريعةغير ملزمة وفي الحقيقة وانا ابحث لكتابة هذا الموضوع في الكتب والمواقع الاسلامية فوجدت ما يكفيني واستحسنته جزى الله تعالى كتابه كل خير وجعله وجعله في ميزان حسناتهم واوردهم حوضه صلى الله عليه وسلم وكذلك صاحب هذا المنتدى الذي نكتب فيه وكتابه وقرائه اللهم امين وهذا هو قول العلماء في هذا الحديث . تعتمد هذه الشبهة على الاستدلال الخاطئ بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" إذ قد قرر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن المسلمين هم أعلم بأمور دنياهم، وبالتالي فإن الشريعة لا تتدخل في تحديد الأمور الدنيوية التي هم بها عالمون، ولما كان النظام السياسي -عند هؤلاء أمراً دنيوياً وليس أمراً دينياً- فإنه يمتنع أن تتدخل الشريعة في تحديده أو المجيء بتفصيل أحكامه !!
ولكي نبين ما في هذه الشبهة من التلبيس والضلال نقول:
أما الحديث فصحيح قد أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ولفظه عن طلحة رضي الله عنه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رءوس النخل فقال: "ما يصنع هؤلاء؟" فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظن يغني ذلك شيئاً" قال: فأُخبروا بذلك فتركوه، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل".
وفي رواية عن رافع بن خديج قال: قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يأبِرون النخل، يقولون يُلقِّحون النخل، فقال: "ما تصنعون" ؟ قالوا: كنا نصنعه، قال: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً" فتركوه فنفضت أو فنقصت، قال: فذكروا ذلك له، فقال: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر".
وفي رواية عن أنس وعائشة رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون، فقال: "لو لم تفعلوا لصلُح" قال: فخرج شيصاً، فمر بهم فقال: "ما لنخلكم؟" قالوا: قلت كذا وكذا، قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم".
فالعلمانيون ومن تبعهم أو تابعهم -وإن كان لكل منهم باعث مختلف عن الآخر- يريدون التوصل من خلال الفهم المحرف لهذا الحديث، إلى أن كل ما جاء في النصوص الشرعية متعلقاً بأمر من أمور الدنيا على جهة الأمر أو النهي أو غير ذلك، فإن تلك النصوص تصبح كأن لم تكن، وتدار أو يتم التعامل مع تلك الأمور الدنيوية من قبل الرأي البشري القائم على المصلحة أو التجربة على أساس أنها مسألة دنيوية، لا دخل للشرع فيها.
وهم بعد تقريرهم لتلك القاعدة الفاسدة، إذا أعياهم تأويل أو تحريف أي نص يتعلق بمسألة لهم فيها رأي مناقض للشرع، إذا أعياهم ذلك، قالوا: هذه من مسائل الدنيا وأمورها، وبالتالي فنحن أحق بها، ولا دخل للشريعة فيها! ومن تلك المسائل التي تعاملوا معها بتلك القاعدة الفاسدة : النظام السياسي فإنهم يقولون: هو من مسائل الدنيا التي نحن أعلم بها، وأحق بإبداء الرأي فيها.
والرد على هذه الشبهة من أربعة وجوه :
الوجه الأول : أن يقال: إن ما ذكرتموه لم يقله أحد من أهل العلم، بل هو مخالف لأقوالهم وما كان هذا سبيله فهو مردود على صاحبه، مرفوض غير مقبول، فقد بوب النووي على ذلك الحديث بقوله: "باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً، دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي".
وقال أيضاً في شرح هذه الأحاديث: "قال العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم "من رأي" أي في أمر الدنيا ومعايشها لا على سبيل التشريع، فأما ما قاله باجتهاده ورآه شرعاً يجب العمل به، وليس إبار النخل من هذا النوع، بل من النوع المذكور قبله... قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبراً، وإنما كان ظناً كما بينه في هذه الروايات، قالوا: ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمور المعايش وظنه كغيره، فلا يمتنع وقوع مثل هذا، ولا نقص في ذلك، وسببه تعلق هممهم بالآخرة ومعارفها والله أعلم ".
فمما تقدم نقله عن أهل العلم يتبين أن مجال هذا الحديث إنما هو في "أمر الدنيا ومعايشها" ولم يذكر العلماء تلك العبارة مطلقة، بل قيدوها بما يبطل كل محاولات التأويل الباطل لهذا الحديث، فقد قيد العلماء "أمر الدنيا ومعايشها" بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله "على سبيل الرأي" أي أنه قاله "لا على سبيل التشريع" وهذا التقييد يعني أمرين:
الأول : أن الأمور التي يقال فيها : "أنتم أعلم بأمور دنياكم" هي تلك الأمور التي لم تتناولها الأدلة الشرعية تناولاً عاماً أو تناولاً خاصاً، أو الأمور التي تناولتها السنة لا على سبيل التشريع وإنما على سبيل الرأي فقط.
الثاني : أن الأصل في كل ما تناولته النصوص الشرعية -ولو كان متعلقاً بأمر الدنيا أو المعاش أو غيره- أن يكون على سبيل التشريع إلا أن يدل الدليل أو القرينة على خلاف ذلك ويؤيد هذا الكلام أيضاً أمران:
أ- تصرف الصحابة في القصة المذكورة حيث امتنعوا من تأبير النخل -رغم خبرتهم السابقة عن أهمية ذلك التلقيح علاوة على أنه أمر أمور المعايش الدنيوية- وذلك لما لم يظهر لهم دليل أو قرينة تبين لهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ما قال على غير سبيل التشريع، وهذا يعني أنهم رضي الله عنهم يتعاملون مع أقواله صلى الله عليه وسلم -ولو كانت في أمور المعايش- على أنها على سبيل التشريع حتى يأتي من الدليل الشرعي ما يبين أنها على غير سبيل التشريع.
ب- طريقة صياغة العلماء للعبارات السابقة، فإنها واضحة كل الوضوح في أن الأصل في كل ما جاء في النصوص الشرعية إنما يتم التعامل معه على أنه جاء على سبيل التشريع، ولذلك احتاج هؤلاء العلماء أن يقيدوا الأمور التي لا يجب على المسلمين امتثالها من معايش الدنيا، بأنها التي جاءت "على سبيل الرأي" أو "لا على سبيل التشريع" وهذا يعني أن النصوص التي جاءت في معايش الدنيا أو غيرها ولم تظهر قرينة أو دليل يبين أنها جاءت على سبيل الرأي أو لا على سبيل التشريع فإنه يتم التعامل معها على أنها نصوص تشريعية يجب امتثالها.
الوجه الثاني : أن يقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر الكلام في عدم تأبير النخل مطلقاً من كل قيد، حتى يقال: إن ما تناولته النصوص الشرعية مطلقاً من القيود وهو من أمور الدنيا فإن الشرع يترك -في هذه الحالة- ويرجع في تلك الأمور الدنيوية إلى أهل الدنيا.
فالرسول صلى الله عليه وسلم-كما هو بُيِّن في الحديث- لم يأمرهم أمراً مطلقاً، أو لم ينههم نهياً مطلقاً -أي بعبارة أخرى لم يكن ما صدر منه على سبيل التشريع- وألفاظ الحديث ورواياته المتعددة تدل على ذلك، وإن كان من سمع هذا الموضوع من الصحابة رضي الله عنهم قد غلبوا جانب التشريع. فقد جاء في ألفاظ الحديث ورواياته: "ما أظن يغني ذلك شيئاً" وجاء "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً"، مما يبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتحدث عن ظن أو خبرة دنيوية لا علاقة لها بالتشريع، ولذلك لما غلَّب بعض الصحابة رضي الله عنهم جانب التشريع في ذلك، بين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يرد ذلك وأن كلامه السابق لا يدل عليه
ولذلك قال لهم معقباً على تصرفهم إزاء مقالته السابقة: "فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن" وقال: "إذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر"، وقال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" فالروايات كلها في مبتداها ومنتهاها متضافرة على أن ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة كان من قبيل الرأي المتعلق بأمور المعاش القائم على الخبرة البشرية التي قد يتاح منها لبعض الناس ما لا يتاح لغيرهم، ولم يكن كلاماً على سبيل التشريع، وإذا تبين ذلك، فقد بطل قولهم في أن النصوص الشرعية المتعلقة بأمور الدنيا، لا يعول عليها، ولا يرجع إليها، وإنما يرجع في مثل هذه الأمور إلى أهل الدنيا والمعرفة بها.
الوجه الثالث : أن يقال إن "أمر الدنيا" الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه، هو تأبير النخل فلا يقاس عليه إلا ما جرى مجراه وكان على شاكلته، وهو الخبرة العملية المتعلقة بشأن من الشئون المباحة التي لم يتعلق بها الخطاب الشرعي لا أمراً ولا نهياً، وليس المراد بذلك كل أمر متعلق بالدنيا، لأنه قد جاءت نصوص شرعية كثيرة في أمور الدنيا، وقد تعلق بها الخطاب الشرعي أمراً ونهياً، فكانت بذلك موكولة إلى الشرع يبين حلالها وحرامها وما يصح منها وما لا يصح إلى غير ذلك من تفاصيلها المطلوبة، ولم تكن موكولة إلى المسلمين -أو إلى غيرهم- يجتهدون فيها أو يعملون فيها بمقتضى عقولهم أو مصالحهم أو أهوائهم، والنظام السياسي وتفاصيله قد تعلق به الخطاب الشرعي أمراً ونهياً وتخييراً، فكان بذلك من النوع الموكول إلى الشرع يبين أحكامه وتفاصيله، ولم يكن من النوع الأول الذي وُكل إلى الخبرة البشرية حيث لم يتعلق به الخطاب الشرعي.
وبذلك تسقط دعاوى العلمانيين ومن تابعهم في تحريف هذا الحديث للوصول إلى إخراج النظام السياسي من الدخول تحت ولاية الشرع.
وأما الأدلة على تعلق الخطاب الشرعي أمراً ونهياً وتخييراً بأمور الدنيا، فأشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر في هذا الكتاب، لذلك نشير إلى جمل من ذلك فقط، فعلى سبيل المثال:
- عيادة المريض، هو أمر اجتماعي يمس علاقات التواصل والألفة بين الناس، ومع ذلك فقد تعلق به الخطاب الشرعي أمراً وتحريضاً: منه قوله صلى الله عليه وسلم: "عودوا المريض"، ومنه قول البراء بن عازب : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع.. الحديث وفيه "وأمرنا أن نتبع الجنائز ونعود المريض ونُفشي السلام".
- وعلى سبيل المثال: الطب والدواء، فهو أمر من المصالح والمنافع التي يحتاجها الناس، وهو أيضاً أمر للخبرة فيه دخل كبير، ومع ذلك فقد تعلق به الخطاب الشرعي، وانظر في ذلك كتاب "الطب" أو كتاب "المرضى" في صحيح البخاري وغيره من كتب السنة، وعلى سبيل المثال فقد جاء قوله صلى الله عليه وسلم: "الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار وأنهى أمتي عن الكي" ففي هذا الحديث يبين الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الأدوية النافعة في العلاج، ثم ينهي عن بعضها، وهذه الأمور هي من الأمور الدنيوية، ولكن مع ذلك قد تعلق بها الخطاب الشرعي .
حتى إنه عندما أشار الرسول صلى الله عليه وسلم باستعمال العسل شفاءً من داء استطلاق البطن، وأخذ المريض الدواء، فازداد بطنه استطلاقاً، ورجع الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث كما قال في حديث تأبير النخل :"أنتم أعلم بأمر دنياكم"، وإنما قال لمخبره: اسقه عسلاً، فسقاه فازداد استطلاقاً، فرجع إليه وقال: لقد ازداد بطنه استطلاقاً، فقال صلى الله عليه وسلم -مصراً على مقالته الأولى- اسقه عسلاً، فسقاه فجاءه الرجل المخبر- وكان أخاً للمريض- وأخبره بعدم الشفاء، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم- مؤكداً على مقالته الأولى ومحتجاً لها- "صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه عسلاً، فسقاه فبرأ" والحديث أخرجه البخاري في كتاب الطب ومسلم وغيرهما .
يقول ابن تيمية رحمه الله: "التشريع يتضمن الإيجاب والتحريم والإباحة، ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب، فإنه يتضمن إباحة ذلك الدواء والانتفاع به، فهو شرع لإباحته، وقد يكون شرعاً لاستحبابه ؛ فإن الناس قد تنازعوا في التداوي.. والتحقيق أن منه ما هو محرم ومنه ما هو مكروه ومنه ما هو مباح، ومنه ما هو مستحب وقد يكون منه ما هو واجب".
وعلى سبيل المثال أيضاً: اللباس والزينة، ما يلبس المرء ومالا يلبس وتفاصيل كثيرة متعلقة بذلك هي من الأمور الدنيوية، ومع ذلك فقد تعلق بها الخطاب الشرعي، بحيث يبين ما يجوز لبسه وما لا يجوز، ويبين كيفيات اللباس المباحة والممنوعة إلى غير ذلك من التفاصيل، ومن أراد التفاصيل فليطلع في كتب السنة على أحاديث كثيرة مجموعة تحت اسم "كتاب اللباس والزينة".
وعلى سبيل المثال أيضاً: كراء الأرض الزراعية بتفاصيلها المختلفة سواء كانت الأرض مشجرة أو غير مشجرة، وسواء كان الإيجار بمال، أو بغلة جزء معين من الأرض وغير ذلك من التفاصيل قد تناولها أيضاً الخطاب الشرعي، ولينظر الناظر في تفاصيل ذلك في كتاب المساقاة والمزارعة وكراء الأرض في كتب السنة وكل هذا من الأمور الدنيوية.
وعلى سبيل المثال أيضاً مسائل البيع والشراء، والربح والدين، والرهن، وما يتعلق بذلك من التفاصيل الكثيرة التي لا يتسع المقام للحديث عنها تعلق بها الخطاب الشرعي مع أنها من أمور الدنيا.
فكل ما ذكرناه، وما لم نذكره من هذه الأمور، هو من الأمور الدنيوية، ومع ذلك فقد تعلق بها الخطاب الشرعي أمراً أو نهياً وتفصيلاً وبياناً، ولو صدق كلامهم في فهم الحديث "أنتم أعلم بأمر دنياكم" لانطبق كلامهم ذاك على ما تقدم ذكره من الأمثلة، ولأدى هذا إلى إخراج كثير من الأمور من الخضوع للأحكام الشرعية، ولأدى ذلك أيضاً إلى هدم الدين وتبديل أحكام الشريعة ؛وهو أمر باطل باتفاق أهل العلم، وما استلزم الباطل فهو باطل فيكون فهمهم للحديث باطلاً.
ومن كل ما تقدم يتبين أن قوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" لا يتعارض مع النصوص الشرعية التي جاءت متعلقة بأمور الدنيا، وبالتالي فإنه لا يمكن أن يستفاد من ذلك الحديث أن المسائل المتعلقة بالنظام السياسي هي من الأمور المتروكة للبشر، وذلك لأن النظام السياسي جاءت في شأنه نصوص شرعية من الكتاب والسنة عامة وخاصة تبين وتفصل الأحكام المتعلقة به.
الوجه الرابع : أن يقال ما هو الضابط الذي تعتمدون عليه في التفريق بين "أمر الدنيا" الموكول للبشر وبين "أمر الدين" الموكول إلى الشريعة؟ حيث إنكم لم تقدموا ضابطاً صحيحاً تفرقون به بين "أمر الدنيا" و"أمر الدين" فأنتم لستم تتبعون أو تتعلقون في قولكم: هذا من أمر الدنيا، وذاك من أمر الدين بنص شرعي، أو بكلام لأحد من أئمة العلم المعروفين لا قديماً ولا حديثاً، وإنما أنتم تتبعون في تفريقكم الباطل من قلدتموهم من أهل الغرب أو الشرق الكافر الذين فصلوا الدولة عن الدين أو الدنيا عن الدين، إذ كما هو معروف مشهور عندما تسلطت الكنيسة على الناس بالباطل، وحدث بين ممثلي الكنيسة من جانب والناس من جانب مناوشات وصراع مرير طويل، انتهى الأمر بعزل الكنيسة عن التدخل في أمور الدنيا أو الدولة، وقُصر تدخلها أو قُصِرت صلاحيتها على التوجيه الروحي والوصايا الأخلاقية، وبعد هذا الوضع النهائي للكنيسة عندهم، أصبحت "أمور الدين" -عندهم- محصورة في علاقة الفرد بربه، وما يتصل بذلك من عقيدة الإنسان في ربه، وأنواع القرب التي يتقرب بها إليه لينال رضاه من غير أن يكون لتلك العلاقة أي بعد أو أثر خارج دائرة الفرد نفسه.
كما أصبحت "أمور الدنيا" تعني -عندهم- كل ما يتصل بحياة الفرد والجماعة داخل المجتمع، وما يترتب على ذلك من أنظمة وعلاقات ومعاملات وقوانين.
وقد تم الفصل الكامل بين هاتين الدائرتين: دائرة "أمور الدنيا"، ودائرة "أمور الدين"، وترتب على ذلك أن الدين -عندهم- أصبح محصوراً في نطاق الإنسان الفرد وحده، أو في داخل الكنيسة حيث يؤدي هؤلاء ما يعتقدون أنه من الدين عندهم، حتى إذا خرجوا من تلك الكنائس إلى واقع الحياة لم يكن للدين أدنى سلطان على تنظيم الحياة وقيادتها إلا ما كان من بعض الوصايا أو العظات الخلقية غير الملزمة ؛ لأن ذلك خارج عن نطاقه وصلاحياته.
بينما أمور الدين تشمل عند المسلمين كل ما تعلق به الخطاب الشرعي أمراً أو نهياً أو خبراً، فما تعلق به الخطاب على وجه الأمر فيكون من الدين فعل المأمور به، وما تعلق به الخطاب على وجه النهي فيكون من الدين اجتناب المنهي عنه، وما تعلق به الخطاب على جهة الخبر، فيكون من الدين تصديق ما أخبر به.
ومن المعلوم البين الذي لا يحتاج إلى كبير بيان أو إيضاح أن الخطاب الشرعي قد تعلق على جهة الأمر والنهي بالأمور أو المسائل التي تتناول حياة الفرد أو الجماعة داخل المجتمع مما يطلق عليه أنه من الأمور الدنيوية وهي في الوقت نفسه مما يطلق عليه أنه من أمور الدين وذلك لتعلق الخطاب الشرعي به.
إذن فتعريف هؤلاء لأمر الدنيا، وما ترتب عليه من إخراج النظام السياسي في الإسلام من أمور الدين رغم تعلق الخطاب الشرعي به وإدخاله في أمور الدنيا التي لا دخل للشرع فيها، هو أمر مأخوذ أصلاً من طبيعة العلاقة بين الدين النصراني المحرف وبين الفكر العلماني، وغنى عن البيان أن ما كان كذلك فلا يصح أن يكون حجة في دين المسلمين ). فتوى بخصوص هذا الحديث ( ا لحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد : ـ في هذا الشأن يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : (الحديث النبوي هو عند الإطلاق ينصرف إلى ما حدث به عنه بعد النبوة : من قوله وفعله وإقراره ; فإن سنته ثبتت من هذه الوجوه الثلاثة . فما قاله إن كان خبرا وجب تصديقه به ، وإن كان تشريعا إيجابا أو تحريما أو إباحة وجب اتباعه فيه . فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء ، دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله عز وجل ، فلا يكون خبرهم إلا حقا وهذا معنى النبوة . وهو يتضمن أن الله ينبئه بالغيب وأنه ينبئ الناس بالغيب والرسول مأمور بدعوة الخلق وتبليغهم رسالات ربه ) . ثم قال : ( ولهذا كان كل ما يقوله فهو حق ، وقد روي أن { عبد الله بن عمرو كان يكتب ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم فقال له بعض الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في الغضب فلا تكتب كلما تسمع ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج من بينهما إلا حق - يعني شفتيه الكريمتين - } . ثم قال : ( المقصود : أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أطلق دخل فيه ذكر ما قاله بعد النبوة ، وذكر ما فعله ; فإن أفعاله التي أقر عليها حجة لا سيما إذا أمرنا أن نتبعها كقولــــــــه : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ، وقوله : ( لتأخذوا عني مناسككم } ، وكذلك ما أحله الله له فهو حلال للأمة ما لم يقم دليل التخصيص ; ولهذا قال : { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا } ولما أحل له الموهوبة قال : { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين } . ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن الفعل يذكر للسائل أنه يفعله ليبين للسائل أنه مباح ، وكان إذا قيل له : قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال : { إني أخشاكم لله وأعلمكم بحدوده } ) . ثم قال : ( والمقصود : أن جميع أقواله يستفاد منها شرع وهو { صلى الله عليه وسلم لما رآهم يلقحون النخل قال لهم : ما أرى هذا - يغني شيئا - ثم قال لهم : إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله فلن أكذب على الله } وقال : { أنتم أعلم بأمور دنياكم فما كان من أمر دينكم فإلي } وهو لم ينههم عن التلقيح لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم كما غلط من غلط في ظنه أن ( الخيط الأبيض) و ( الخيط الأسود) هو الحبل الأبيض والأسود . ) مجموع الفتـــــاوى (18/6-12) والحاصل : أن الأصل أن كل ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم فهو وحي وشرع من الله تعالى ، لأن الله تعالى قال ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) . فإذا لم يكن ما يقوله من التشريع ، فإنه صلى الله عليه وسلم ، يبيّّن ذلك ، كما في حديث تأبيــــر ( تلقيح) النخل ، فقد بين عندما قال ( ما أرى هذا يغني شيئا ) ، ولكنهم لما أخطأ الصحابة في فهمــه ، أوضح لهم Hن معنى ما قال ، أنه يخبر عن ظنه فحسب. وبهذا يتبيّن أنه لاحجة البتة ، في هذا الحديث ، لمن يدعي أن السنة تنقسم إلى قسمين ، تشريعيّة وغير تشريعيّه ، ثم يجعل السنة غير التشريعية مما لايجب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيها ، لانه مما يدخل في قوله ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) . وهم الذين يطلقون على أنفسهم اليسار الإسلامي ، أو تيار التجديد ، والتجديد منهم براء ، وهو تيار التخريب واتباع المتشابهات . ثم إنهم ـ بنوا على بدعتهم هذه ـ أنهم أخذوا يتقولون على الله بغير علم ، ويفترون على الله الكذب ، في نسبة كثير مما أوحى الله تعالى إلى نبيه ، وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أمته في باب المعاملات ، والأقضية والأحكام ، والإمامة ، والجهاد ، وعلاقة الأمة بغيرها من الأمم ونحو ذلك ، أن ذلك كله فعله النبي صلى الله عيه وسلم من باب السنة غير التشريعية ، فلا يجب علينا اتباعه فيما قال ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا . وتعلقوا بحديث تأبير النخل المذكور ، كما تعلق الذين من قبلهم ممن في قلوبهم زيغ بالمتشابه كما قال تعالى ( فأما الذين في قلوبهم زيع فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة .. الآية ) . وتعاموا ـ أو أعمت الضلالة أبصارهم ـ عن أن ما يطلق عليه العلماء باب المعاملات في الفقه ، من الجهاد إلى الإقرار و الشهادات ، إنما امتثل فيه النبي صلى الله عليه وسلم محكم التنزيل القرآني . فعامة ما قاله أو فعله صلى الله عليه وسلم ، في أبواب المعاملات : في تقسيم الناس إلى مؤمنين مقرّين بوجوب اتباع جاء به صلى الله عليه وسلم ، وكافرين معرضين عن ذلك ، وتنظيم التعامل مع الأمم على هذا الأساس فحسب . وترتيب أحكام الجهاد على هذا الأساس . وفي تحريم ما حرمه الله تعالى من الربا وغيره من التعاملات المالية المحرمة ، أو التي أمر الله بها . وفي الأمر بنصب الإمامة الحاكمة بشريعة الله تعالى في كل شؤون الحياة ، وأن ترك الحكم بالشريعة ردة عن الدين . وفي تنظيم أحكام الأسرة ، وسائر الأحكام المتعلقة بالحياة كلها . كل ذلك كان امتثالا من النبي صلى الله عليه وسلم لمحكم التنزيل ، تأكيدا له ، أوبيانا لمجمله ، أو تقييدا لمطلقه ، أو تخصيصا لعامه . ومالم يرد من ذلك في القرآن ، وقــد ورد في السنة زيادة على مافي القرآن ، فهو وحي يجب على جميع الناس اتباعه أيضا . وقد تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم بحدوث بدعة نهج هؤلاء المتهوكين في الإسلام ، الذين جعلوا شريعة النبي صلى الله عليه وسلم عضين ، كما جعل أهل الجاهلية كتاب الله عضين ، كما قال تعالى (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) ، أي جزءوه فأمنوا ببعضه دون بعض . كما صح في الحديث( يوشك أن يقعد الرجل متكئا على أريكته، يحدث بحديث من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله ) رواه أحمد وأبو داود والحاكم من حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه . وفي الحديث أيضا : (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السبع، ولا لقطة معاهد، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يغصبهم بمثل قراه ) رواه احمد وأبو داود من حديث المقدام بن معديكرب رضي الله عنه . والحاصل أن حديث ( أنتم أعلم بشؤون دنياكم ) إنما يدل على أن مالم يرد فيه أمر وجوب أو ندب ، أو نهي تحريم أو كراهة ، فهو مسكوت عنه ، من قبيل المباح ، هذه دلالته بإجماع العلماء . ومن زعم أن هذا الحديث يدل على أنه يجوز لأحد أن يخرج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما حكم فيه بقول أو فعل أو إقرار ، في المعاملات الإنسانية ، ويحكم بسواها من شريعة غير الرسول أو هواه ، بحجة أنه مما يدخل فيه ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) ، فهو ممن يدخلون في قوله تعالى ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصـــــدون عنك صدودا ). وهو كافر مرتد باتفاق العلماء ، لانه يرد الشريعة الإلهيّة ، ويعلن التمرد عليها ، ولاشبهة له في الحديث المذكور ، لأن النبي صلى الله عليه ، بيّن أن ما قاله في شأن تأبير النخل ، لم يكن بوحي ، ولكن الصحابة أخطأوا في فهمه ، فأوضح لهم خطأهم في فهم تلك القضية بعينها . وبهذا يعلــم أن كل ما يقوله صلى الله عليه وسلم ـ مالم يبيّن هو أنه يخبر عن ظنّه وليس بوحي ـ فهو وحي من الله يجب اتباعه ، بنص الكتاب العزيز والسنة وإجماع المسلمين والله أعلم
( ملحوظة ) ارجوا منمن يهمه الموضوع التوسع في القراءة والبحث لان هناك فريق من العلماء ضعفوا الحديث وجعلوا روايته شاذة ----------- واخر دعواهم ان الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم
ولكي نبين ما في هذه الشبهة من التلبيس والضلال نقول:
أما الحديث فصحيح قد أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ولفظه عن طلحة رضي الله عنه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رءوس النخل فقال: "ما يصنع هؤلاء؟" فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظن يغني ذلك شيئاً" قال: فأُخبروا بذلك فتركوه، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل".
وفي رواية عن رافع بن خديج قال: قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يأبِرون النخل، يقولون يُلقِّحون النخل، فقال: "ما تصنعون" ؟ قالوا: كنا نصنعه، قال: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً" فتركوه فنفضت أو فنقصت، قال: فذكروا ذلك له، فقال: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر".
وفي رواية عن أنس وعائشة رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون، فقال: "لو لم تفعلوا لصلُح" قال: فخرج شيصاً، فمر بهم فقال: "ما لنخلكم؟" قالوا: قلت كذا وكذا، قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم".
فالعلمانيون ومن تبعهم أو تابعهم -وإن كان لكل منهم باعث مختلف عن الآخر- يريدون التوصل من خلال الفهم المحرف لهذا الحديث، إلى أن كل ما جاء في النصوص الشرعية متعلقاً بأمر من أمور الدنيا على جهة الأمر أو النهي أو غير ذلك، فإن تلك النصوص تصبح كأن لم تكن، وتدار أو يتم التعامل مع تلك الأمور الدنيوية من قبل الرأي البشري القائم على المصلحة أو التجربة على أساس أنها مسألة دنيوية، لا دخل للشرع فيها.
وهم بعد تقريرهم لتلك القاعدة الفاسدة، إذا أعياهم تأويل أو تحريف أي نص يتعلق بمسألة لهم فيها رأي مناقض للشرع، إذا أعياهم ذلك، قالوا: هذه من مسائل الدنيا وأمورها، وبالتالي فنحن أحق بها، ولا دخل للشريعة فيها! ومن تلك المسائل التي تعاملوا معها بتلك القاعدة الفاسدة : النظام السياسي فإنهم يقولون: هو من مسائل الدنيا التي نحن أعلم بها، وأحق بإبداء الرأي فيها.
والرد على هذه الشبهة من أربعة وجوه :
الوجه الأول : أن يقال: إن ما ذكرتموه لم يقله أحد من أهل العلم، بل هو مخالف لأقوالهم وما كان هذا سبيله فهو مردود على صاحبه، مرفوض غير مقبول، فقد بوب النووي على ذلك الحديث بقوله: "باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً، دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي".
وقال أيضاً في شرح هذه الأحاديث: "قال العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم "من رأي" أي في أمر الدنيا ومعايشها لا على سبيل التشريع، فأما ما قاله باجتهاده ورآه شرعاً يجب العمل به، وليس إبار النخل من هذا النوع، بل من النوع المذكور قبله... قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبراً، وإنما كان ظناً كما بينه في هذه الروايات، قالوا: ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمور المعايش وظنه كغيره، فلا يمتنع وقوع مثل هذا، ولا نقص في ذلك، وسببه تعلق هممهم بالآخرة ومعارفها والله أعلم ".
فمما تقدم نقله عن أهل العلم يتبين أن مجال هذا الحديث إنما هو في "أمر الدنيا ومعايشها" ولم يذكر العلماء تلك العبارة مطلقة، بل قيدوها بما يبطل كل محاولات التأويل الباطل لهذا الحديث، فقد قيد العلماء "أمر الدنيا ومعايشها" بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله "على سبيل الرأي" أي أنه قاله "لا على سبيل التشريع" وهذا التقييد يعني أمرين:
الأول : أن الأمور التي يقال فيها : "أنتم أعلم بأمور دنياكم" هي تلك الأمور التي لم تتناولها الأدلة الشرعية تناولاً عاماً أو تناولاً خاصاً، أو الأمور التي تناولتها السنة لا على سبيل التشريع وإنما على سبيل الرأي فقط.
الثاني : أن الأصل في كل ما تناولته النصوص الشرعية -ولو كان متعلقاً بأمر الدنيا أو المعاش أو غيره- أن يكون على سبيل التشريع إلا أن يدل الدليل أو القرينة على خلاف ذلك ويؤيد هذا الكلام أيضاً أمران:
أ- تصرف الصحابة في القصة المذكورة حيث امتنعوا من تأبير النخل -رغم خبرتهم السابقة عن أهمية ذلك التلقيح علاوة على أنه أمر أمور المعايش الدنيوية- وذلك لما لم يظهر لهم دليل أو قرينة تبين لهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ما قال على غير سبيل التشريع، وهذا يعني أنهم رضي الله عنهم يتعاملون مع أقواله صلى الله عليه وسلم -ولو كانت في أمور المعايش- على أنها على سبيل التشريع حتى يأتي من الدليل الشرعي ما يبين أنها على غير سبيل التشريع.
ب- طريقة صياغة العلماء للعبارات السابقة، فإنها واضحة كل الوضوح في أن الأصل في كل ما جاء في النصوص الشرعية إنما يتم التعامل معه على أنه جاء على سبيل التشريع، ولذلك احتاج هؤلاء العلماء أن يقيدوا الأمور التي لا يجب على المسلمين امتثالها من معايش الدنيا، بأنها التي جاءت "على سبيل الرأي" أو "لا على سبيل التشريع" وهذا يعني أن النصوص التي جاءت في معايش الدنيا أو غيرها ولم تظهر قرينة أو دليل يبين أنها جاءت على سبيل الرأي أو لا على سبيل التشريع فإنه يتم التعامل معها على أنها نصوص تشريعية يجب امتثالها.
الوجه الثاني : أن يقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر الكلام في عدم تأبير النخل مطلقاً من كل قيد، حتى يقال: إن ما تناولته النصوص الشرعية مطلقاً من القيود وهو من أمور الدنيا فإن الشرع يترك -في هذه الحالة- ويرجع في تلك الأمور الدنيوية إلى أهل الدنيا.
فالرسول صلى الله عليه وسلم-كما هو بُيِّن في الحديث- لم يأمرهم أمراً مطلقاً، أو لم ينههم نهياً مطلقاً -أي بعبارة أخرى لم يكن ما صدر منه على سبيل التشريع- وألفاظ الحديث ورواياته المتعددة تدل على ذلك، وإن كان من سمع هذا الموضوع من الصحابة رضي الله عنهم قد غلبوا جانب التشريع. فقد جاء في ألفاظ الحديث ورواياته: "ما أظن يغني ذلك شيئاً" وجاء "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً"، مما يبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتحدث عن ظن أو خبرة دنيوية لا علاقة لها بالتشريع، ولذلك لما غلَّب بعض الصحابة رضي الله عنهم جانب التشريع في ذلك، بين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يرد ذلك وأن كلامه السابق لا يدل عليه
ولذلك قال لهم معقباً على تصرفهم إزاء مقالته السابقة: "فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن" وقال: "إذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر"، وقال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" فالروايات كلها في مبتداها ومنتهاها متضافرة على أن ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة كان من قبيل الرأي المتعلق بأمور المعاش القائم على الخبرة البشرية التي قد يتاح منها لبعض الناس ما لا يتاح لغيرهم، ولم يكن كلاماً على سبيل التشريع، وإذا تبين ذلك، فقد بطل قولهم في أن النصوص الشرعية المتعلقة بأمور الدنيا، لا يعول عليها، ولا يرجع إليها، وإنما يرجع في مثل هذه الأمور إلى أهل الدنيا والمعرفة بها.
الوجه الثالث : أن يقال إن "أمر الدنيا" الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه، هو تأبير النخل فلا يقاس عليه إلا ما جرى مجراه وكان على شاكلته، وهو الخبرة العملية المتعلقة بشأن من الشئون المباحة التي لم يتعلق بها الخطاب الشرعي لا أمراً ولا نهياً، وليس المراد بذلك كل أمر متعلق بالدنيا، لأنه قد جاءت نصوص شرعية كثيرة في أمور الدنيا، وقد تعلق بها الخطاب الشرعي أمراً ونهياً، فكانت بذلك موكولة إلى الشرع يبين حلالها وحرامها وما يصح منها وما لا يصح إلى غير ذلك من تفاصيلها المطلوبة، ولم تكن موكولة إلى المسلمين -أو إلى غيرهم- يجتهدون فيها أو يعملون فيها بمقتضى عقولهم أو مصالحهم أو أهوائهم، والنظام السياسي وتفاصيله قد تعلق به الخطاب الشرعي أمراً ونهياً وتخييراً، فكان بذلك من النوع الموكول إلى الشرع يبين أحكامه وتفاصيله، ولم يكن من النوع الأول الذي وُكل إلى الخبرة البشرية حيث لم يتعلق به الخطاب الشرعي.
وبذلك تسقط دعاوى العلمانيين ومن تابعهم في تحريف هذا الحديث للوصول إلى إخراج النظام السياسي من الدخول تحت ولاية الشرع.
وأما الأدلة على تعلق الخطاب الشرعي أمراً ونهياً وتخييراً بأمور الدنيا، فأشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر في هذا الكتاب، لذلك نشير إلى جمل من ذلك فقط، فعلى سبيل المثال:
- عيادة المريض، هو أمر اجتماعي يمس علاقات التواصل والألفة بين الناس، ومع ذلك فقد تعلق به الخطاب الشرعي أمراً وتحريضاً: منه قوله صلى الله عليه وسلم: "عودوا المريض"، ومنه قول البراء بن عازب : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع.. الحديث وفيه "وأمرنا أن نتبع الجنائز ونعود المريض ونُفشي السلام".
- وعلى سبيل المثال: الطب والدواء، فهو أمر من المصالح والمنافع التي يحتاجها الناس، وهو أيضاً أمر للخبرة فيه دخل كبير، ومع ذلك فقد تعلق به الخطاب الشرعي، وانظر في ذلك كتاب "الطب" أو كتاب "المرضى" في صحيح البخاري وغيره من كتب السنة، وعلى سبيل المثال فقد جاء قوله صلى الله عليه وسلم: "الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار وأنهى أمتي عن الكي" ففي هذا الحديث يبين الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الأدوية النافعة في العلاج، ثم ينهي عن بعضها، وهذه الأمور هي من الأمور الدنيوية، ولكن مع ذلك قد تعلق بها الخطاب الشرعي .
حتى إنه عندما أشار الرسول صلى الله عليه وسلم باستعمال العسل شفاءً من داء استطلاق البطن، وأخذ المريض الدواء، فازداد بطنه استطلاقاً، ورجع الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث كما قال في حديث تأبير النخل :"أنتم أعلم بأمر دنياكم"، وإنما قال لمخبره: اسقه عسلاً، فسقاه فازداد استطلاقاً، فرجع إليه وقال: لقد ازداد بطنه استطلاقاً، فقال صلى الله عليه وسلم -مصراً على مقالته الأولى- اسقه عسلاً، فسقاه فجاءه الرجل المخبر- وكان أخاً للمريض- وأخبره بعدم الشفاء، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم- مؤكداً على مقالته الأولى ومحتجاً لها- "صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه عسلاً، فسقاه فبرأ" والحديث أخرجه البخاري في كتاب الطب ومسلم وغيرهما .
يقول ابن تيمية رحمه الله: "التشريع يتضمن الإيجاب والتحريم والإباحة، ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب، فإنه يتضمن إباحة ذلك الدواء والانتفاع به، فهو شرع لإباحته، وقد يكون شرعاً لاستحبابه ؛ فإن الناس قد تنازعوا في التداوي.. والتحقيق أن منه ما هو محرم ومنه ما هو مكروه ومنه ما هو مباح، ومنه ما هو مستحب وقد يكون منه ما هو واجب".
وعلى سبيل المثال أيضاً: اللباس والزينة، ما يلبس المرء ومالا يلبس وتفاصيل كثيرة متعلقة بذلك هي من الأمور الدنيوية، ومع ذلك فقد تعلق بها الخطاب الشرعي، بحيث يبين ما يجوز لبسه وما لا يجوز، ويبين كيفيات اللباس المباحة والممنوعة إلى غير ذلك من التفاصيل، ومن أراد التفاصيل فليطلع في كتب السنة على أحاديث كثيرة مجموعة تحت اسم "كتاب اللباس والزينة".
وعلى سبيل المثال أيضاً: كراء الأرض الزراعية بتفاصيلها المختلفة سواء كانت الأرض مشجرة أو غير مشجرة، وسواء كان الإيجار بمال، أو بغلة جزء معين من الأرض وغير ذلك من التفاصيل قد تناولها أيضاً الخطاب الشرعي، ولينظر الناظر في تفاصيل ذلك في كتاب المساقاة والمزارعة وكراء الأرض في كتب السنة وكل هذا من الأمور الدنيوية.
وعلى سبيل المثال أيضاً مسائل البيع والشراء، والربح والدين، والرهن، وما يتعلق بذلك من التفاصيل الكثيرة التي لا يتسع المقام للحديث عنها تعلق بها الخطاب الشرعي مع أنها من أمور الدنيا.
فكل ما ذكرناه، وما لم نذكره من هذه الأمور، هو من الأمور الدنيوية، ومع ذلك فقد تعلق بها الخطاب الشرعي أمراً أو نهياً وتفصيلاً وبياناً، ولو صدق كلامهم في فهم الحديث "أنتم أعلم بأمر دنياكم" لانطبق كلامهم ذاك على ما تقدم ذكره من الأمثلة، ولأدى هذا إلى إخراج كثير من الأمور من الخضوع للأحكام الشرعية، ولأدى ذلك أيضاً إلى هدم الدين وتبديل أحكام الشريعة ؛وهو أمر باطل باتفاق أهل العلم، وما استلزم الباطل فهو باطل فيكون فهمهم للحديث باطلاً.
ومن كل ما تقدم يتبين أن قوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" لا يتعارض مع النصوص الشرعية التي جاءت متعلقة بأمور الدنيا، وبالتالي فإنه لا يمكن أن يستفاد من ذلك الحديث أن المسائل المتعلقة بالنظام السياسي هي من الأمور المتروكة للبشر، وذلك لأن النظام السياسي جاءت في شأنه نصوص شرعية من الكتاب والسنة عامة وخاصة تبين وتفصل الأحكام المتعلقة به.
الوجه الرابع : أن يقال ما هو الضابط الذي تعتمدون عليه في التفريق بين "أمر الدنيا" الموكول للبشر وبين "أمر الدين" الموكول إلى الشريعة؟ حيث إنكم لم تقدموا ضابطاً صحيحاً تفرقون به بين "أمر الدنيا" و"أمر الدين" فأنتم لستم تتبعون أو تتعلقون في قولكم: هذا من أمر الدنيا، وذاك من أمر الدين بنص شرعي، أو بكلام لأحد من أئمة العلم المعروفين لا قديماً ولا حديثاً، وإنما أنتم تتبعون في تفريقكم الباطل من قلدتموهم من أهل الغرب أو الشرق الكافر الذين فصلوا الدولة عن الدين أو الدنيا عن الدين، إذ كما هو معروف مشهور عندما تسلطت الكنيسة على الناس بالباطل، وحدث بين ممثلي الكنيسة من جانب والناس من جانب مناوشات وصراع مرير طويل، انتهى الأمر بعزل الكنيسة عن التدخل في أمور الدنيا أو الدولة، وقُصر تدخلها أو قُصِرت صلاحيتها على التوجيه الروحي والوصايا الأخلاقية، وبعد هذا الوضع النهائي للكنيسة عندهم، أصبحت "أمور الدين" -عندهم- محصورة في علاقة الفرد بربه، وما يتصل بذلك من عقيدة الإنسان في ربه، وأنواع القرب التي يتقرب بها إليه لينال رضاه من غير أن يكون لتلك العلاقة أي بعد أو أثر خارج دائرة الفرد نفسه.
كما أصبحت "أمور الدنيا" تعني -عندهم- كل ما يتصل بحياة الفرد والجماعة داخل المجتمع، وما يترتب على ذلك من أنظمة وعلاقات ومعاملات وقوانين.
وقد تم الفصل الكامل بين هاتين الدائرتين: دائرة "أمور الدنيا"، ودائرة "أمور الدين"، وترتب على ذلك أن الدين -عندهم- أصبح محصوراً في نطاق الإنسان الفرد وحده، أو في داخل الكنيسة حيث يؤدي هؤلاء ما يعتقدون أنه من الدين عندهم، حتى إذا خرجوا من تلك الكنائس إلى واقع الحياة لم يكن للدين أدنى سلطان على تنظيم الحياة وقيادتها إلا ما كان من بعض الوصايا أو العظات الخلقية غير الملزمة ؛ لأن ذلك خارج عن نطاقه وصلاحياته.
بينما أمور الدين تشمل عند المسلمين كل ما تعلق به الخطاب الشرعي أمراً أو نهياً أو خبراً، فما تعلق به الخطاب على وجه الأمر فيكون من الدين فعل المأمور به، وما تعلق به الخطاب على وجه النهي فيكون من الدين اجتناب المنهي عنه، وما تعلق به الخطاب على جهة الخبر، فيكون من الدين تصديق ما أخبر به.
ومن المعلوم البين الذي لا يحتاج إلى كبير بيان أو إيضاح أن الخطاب الشرعي قد تعلق على جهة الأمر والنهي بالأمور أو المسائل التي تتناول حياة الفرد أو الجماعة داخل المجتمع مما يطلق عليه أنه من الأمور الدنيوية وهي في الوقت نفسه مما يطلق عليه أنه من أمور الدين وذلك لتعلق الخطاب الشرعي به.
إذن فتعريف هؤلاء لأمر الدنيا، وما ترتب عليه من إخراج النظام السياسي في الإسلام من أمور الدين رغم تعلق الخطاب الشرعي به وإدخاله في أمور الدنيا التي لا دخل للشرع فيها، هو أمر مأخوذ أصلاً من طبيعة العلاقة بين الدين النصراني المحرف وبين الفكر العلماني، وغنى عن البيان أن ما كان كذلك فلا يصح أن يكون حجة في دين المسلمين ). فتوى بخصوص هذا الحديث ( ا لحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد : ـ في هذا الشأن يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : (الحديث النبوي هو عند الإطلاق ينصرف إلى ما حدث به عنه بعد النبوة : من قوله وفعله وإقراره ; فإن سنته ثبتت من هذه الوجوه الثلاثة . فما قاله إن كان خبرا وجب تصديقه به ، وإن كان تشريعا إيجابا أو تحريما أو إباحة وجب اتباعه فيه . فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء ، دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله عز وجل ، فلا يكون خبرهم إلا حقا وهذا معنى النبوة . وهو يتضمن أن الله ينبئه بالغيب وأنه ينبئ الناس بالغيب والرسول مأمور بدعوة الخلق وتبليغهم رسالات ربه ) . ثم قال : ( ولهذا كان كل ما يقوله فهو حق ، وقد روي أن { عبد الله بن عمرو كان يكتب ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم فقال له بعض الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في الغضب فلا تكتب كلما تسمع ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج من بينهما إلا حق - يعني شفتيه الكريمتين - } . ثم قال : ( المقصود : أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أطلق دخل فيه ذكر ما قاله بعد النبوة ، وذكر ما فعله ; فإن أفعاله التي أقر عليها حجة لا سيما إذا أمرنا أن نتبعها كقولــــــــه : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ، وقوله : ( لتأخذوا عني مناسككم } ، وكذلك ما أحله الله له فهو حلال للأمة ما لم يقم دليل التخصيص ; ولهذا قال : { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا } ولما أحل له الموهوبة قال : { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين } . ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن الفعل يذكر للسائل أنه يفعله ليبين للسائل أنه مباح ، وكان إذا قيل له : قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال : { إني أخشاكم لله وأعلمكم بحدوده } ) . ثم قال : ( والمقصود : أن جميع أقواله يستفاد منها شرع وهو { صلى الله عليه وسلم لما رآهم يلقحون النخل قال لهم : ما أرى هذا - يغني شيئا - ثم قال لهم : إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله فلن أكذب على الله } وقال : { أنتم أعلم بأمور دنياكم فما كان من أمر دينكم فإلي } وهو لم ينههم عن التلقيح لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم كما غلط من غلط في ظنه أن ( الخيط الأبيض) و ( الخيط الأسود) هو الحبل الأبيض والأسود . ) مجموع الفتـــــاوى (18/6-12) والحاصل : أن الأصل أن كل ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم فهو وحي وشرع من الله تعالى ، لأن الله تعالى قال ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) . فإذا لم يكن ما يقوله من التشريع ، فإنه صلى الله عليه وسلم ، يبيّّن ذلك ، كما في حديث تأبيــــر ( تلقيح) النخل ، فقد بين عندما قال ( ما أرى هذا يغني شيئا ) ، ولكنهم لما أخطأ الصحابة في فهمــه ، أوضح لهم Hن معنى ما قال ، أنه يخبر عن ظنه فحسب. وبهذا يتبيّن أنه لاحجة البتة ، في هذا الحديث ، لمن يدعي أن السنة تنقسم إلى قسمين ، تشريعيّة وغير تشريعيّه ، ثم يجعل السنة غير التشريعية مما لايجب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيها ، لانه مما يدخل في قوله ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) . وهم الذين يطلقون على أنفسهم اليسار الإسلامي ، أو تيار التجديد ، والتجديد منهم براء ، وهو تيار التخريب واتباع المتشابهات . ثم إنهم ـ بنوا على بدعتهم هذه ـ أنهم أخذوا يتقولون على الله بغير علم ، ويفترون على الله الكذب ، في نسبة كثير مما أوحى الله تعالى إلى نبيه ، وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أمته في باب المعاملات ، والأقضية والأحكام ، والإمامة ، والجهاد ، وعلاقة الأمة بغيرها من الأمم ونحو ذلك ، أن ذلك كله فعله النبي صلى الله عيه وسلم من باب السنة غير التشريعية ، فلا يجب علينا اتباعه فيما قال ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا . وتعلقوا بحديث تأبير النخل المذكور ، كما تعلق الذين من قبلهم ممن في قلوبهم زيغ بالمتشابه كما قال تعالى ( فأما الذين في قلوبهم زيع فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة .. الآية ) . وتعاموا ـ أو أعمت الضلالة أبصارهم ـ عن أن ما يطلق عليه العلماء باب المعاملات في الفقه ، من الجهاد إلى الإقرار و الشهادات ، إنما امتثل فيه النبي صلى الله عليه وسلم محكم التنزيل القرآني . فعامة ما قاله أو فعله صلى الله عليه وسلم ، في أبواب المعاملات : في تقسيم الناس إلى مؤمنين مقرّين بوجوب اتباع جاء به صلى الله عليه وسلم ، وكافرين معرضين عن ذلك ، وتنظيم التعامل مع الأمم على هذا الأساس فحسب . وترتيب أحكام الجهاد على هذا الأساس . وفي تحريم ما حرمه الله تعالى من الربا وغيره من التعاملات المالية المحرمة ، أو التي أمر الله بها . وفي الأمر بنصب الإمامة الحاكمة بشريعة الله تعالى في كل شؤون الحياة ، وأن ترك الحكم بالشريعة ردة عن الدين . وفي تنظيم أحكام الأسرة ، وسائر الأحكام المتعلقة بالحياة كلها . كل ذلك كان امتثالا من النبي صلى الله عليه وسلم لمحكم التنزيل ، تأكيدا له ، أوبيانا لمجمله ، أو تقييدا لمطلقه ، أو تخصيصا لعامه . ومالم يرد من ذلك في القرآن ، وقــد ورد في السنة زيادة على مافي القرآن ، فهو وحي يجب على جميع الناس اتباعه أيضا . وقد تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم بحدوث بدعة نهج هؤلاء المتهوكين في الإسلام ، الذين جعلوا شريعة النبي صلى الله عليه وسلم عضين ، كما جعل أهل الجاهلية كتاب الله عضين ، كما قال تعالى (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) ، أي جزءوه فأمنوا ببعضه دون بعض . كما صح في الحديث( يوشك أن يقعد الرجل متكئا على أريكته، يحدث بحديث من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله ) رواه أحمد وأبو داود والحاكم من حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه . وفي الحديث أيضا : (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السبع، ولا لقطة معاهد، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يغصبهم بمثل قراه ) رواه احمد وأبو داود من حديث المقدام بن معديكرب رضي الله عنه . والحاصل أن حديث ( أنتم أعلم بشؤون دنياكم ) إنما يدل على أن مالم يرد فيه أمر وجوب أو ندب ، أو نهي تحريم أو كراهة ، فهو مسكوت عنه ، من قبيل المباح ، هذه دلالته بإجماع العلماء . ومن زعم أن هذا الحديث يدل على أنه يجوز لأحد أن يخرج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما حكم فيه بقول أو فعل أو إقرار ، في المعاملات الإنسانية ، ويحكم بسواها من شريعة غير الرسول أو هواه ، بحجة أنه مما يدخل فيه ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) ، فهو ممن يدخلون في قوله تعالى ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصـــــدون عنك صدودا ). وهو كافر مرتد باتفاق العلماء ، لانه يرد الشريعة الإلهيّة ، ويعلن التمرد عليها ، ولاشبهة له في الحديث المذكور ، لأن النبي صلى الله عليه ، بيّن أن ما قاله في شأن تأبير النخل ، لم يكن بوحي ، ولكن الصحابة أخطأوا في فهمه ، فأوضح لهم خطأهم في فهم تلك القضية بعينها . وبهذا يعلــم أن كل ما يقوله صلى الله عليه وسلم ـ مالم يبيّن هو أنه يخبر عن ظنّه وليس بوحي ـ فهو وحي من الله يجب اتباعه ، بنص الكتاب العزيز والسنة وإجماع المسلمين والله أعلم
( ملحوظة ) ارجوا منمن يهمه الموضوع التوسع في القراءة والبحث لان هناك فريق من العلماء ضعفوا الحديث وجعلوا روايته شاذة ----------- واخر دعواهم ان الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم