وقفات ستتوالى بإذن الله عز وجل مع وصايا في غاية الأهمية ، أبدأها بلفت النظر إلى أهميتها ؛ فقد روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم قال: ( من يبايعني على هذه الآيات ، وتلا : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا ... } إلى ثلاث آيات ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : ( فمن وفى فأجره على الله ومن انتقص شيئا أدركه الله بها - أي في الدنيا كانت عقوبته- ومن أخر إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له )
رواه الحاكم وصححه و وافقه الذهبي .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه - قال مقالة عظيمة تكشف عن أهمية ما نقف معه من هذه الوصايا القرآنية – قال :
" من أراد أن يقرأ صحيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات : { قل تعالوا أتل ما حرم عليكم ... } "
وصية مختومة ممهورة بختم ومهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر القرطبي هذه الرواية عن غير ابن مسعود وقال فيها:
" وعليها خاتمه التي لم ينفك فهذه الوصية التي وجهها الحق جل وعلا لرسوله صلى الله عليه وسلم وجعلت خطابا وتوجيها لأمته هي التي رأى الصحابة أنها خلاصة تلك الوصية وخلاصة تلك الديانة العظيمة والشريعة الكاملة التي بُعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم "
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : " في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب "
وذكر ذلك القرطبي نقلاً عن ابن عباس بقوله: " الآيات المحكمات التي ذكرها الله جلا وعلا في آل عمران أجمعت عليها شرائع الخلق ولم تنسخ في ملة قط " .
أفليس مثل هذه الوصايا حري بنا أن نعنى بها وهي آيات تتلى في كتاب الله عز وجل وهداية وجهت لخير الخلق عليه الصلاة والسلام ؛ ولذا فإننا نقف معها هذه الوقفات المتتاليات .. نسأل الله عز وجل أن يفتح علينا بها وفي معانيها وأن يوفقنا لحسن قبولها والعمل بها .
{ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً }
الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكما ذكر القرطبي أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس ما حرم الله عليهم قال: " وهكذا يجب على من بعده من العلماء أن يبلغوا الناس ويبينوا لهم ما حرم الله عليهم ، وما أحلّ لقوله تعالى: { لتبيننه للناس ولا تكتمونه} فما نقوله اليوم يكون حجة لنا أو علينا ؛ فإن امتثلنا وعملنا وإن بلغنا ودعونا وذكرنا كان ذلك نوراً على نور ، وهدى على هدى وتقى على تقى ، وإن كانت الأخرى قامت الحجة ، وانقطع العذر ، وصارت الأمر إما إلى عقوبة معجلة أو مؤجلة أو إلى رحمة من الله واسعة " .
نسأل الله عز وجل من فضله ، وثمت أمر آخر، وهو الخطاب الذي يوجهه النبي صلى الله عليه وسلم ويوجهه من بعده من حملة رسالته ، وأتباع سنته .
{قل تعالوا } لمن هذا النداء إنه للخلق جميعا ويخص المسلمين وغير المسلمين معاً ؛ فإن هذا النداء هو نداء هذه الشريعة الخاتمة والرسالة التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم ، وما سبق من هذه الآيات يبين لنا حكمة وموضع هذه الآيات في هذا السياق ؛ لأن الآيات السابقة كانت تخاطبنا عن المشركين من أهل الجاهلية وأفعالهم الشنيعة التي أحلّوا فيها ما حرّم الله ، وحرموا فيها ما أحلّ الله إتباعاً لأهوائهم ، وتقريراً لأعرافهم ، وتثبيتا لجاهليتهم .
ومن هنا جاء الخطاب الرباني في مواجهتهم قبل هذه الآيات والوصايا : {قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون } .
أولئك الذين حرّفوا وبدلوا وغيّروا .. جاء النداء لتصحيح المسار ؛ فإنه لا حلال إلا ما أحل الله ، ولا حرام إلا ما حرّم الله ، ولا شرع إلا ما جاء عن الله أو بلغه رسوله صلى الله عليه وسلم : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } .
ليس هناك اختيارات ليس هناك أنواع من الأهواء التي تفضل شيئا وتؤخره وإلا كان ذلك ضرباً من مناقضة أصل الإيمان ومخالفة صفاء التوحيد : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما } .
{ويسلموا تسليما } أي يقبلوا قبولا تاما من أعماق قلوبهم ونفوسهم ، دون أدنى شك ولا أقل حرج ولا أيسر معارضة ولا شيء مما فيه ضرب من الاعتراض بحال من الأحوال، ولذلك جاء هذا الخطاب وهذه الوصية التي أُمر بها المصطفى عليه الصلاة والسلام لتبين لنا جملة الأمور المهمة كما روي عن ابن عباس أن هذه الوصايا قد أجمعت عليها الشرائع كلها ولم ينسخ منها شيء قط ، وأنها خلاصة وجوهر هذا الدين ، وأنها التي بها العصمة من كل زلل ومن كل فتنة والتي من استمسك بها فقد أدّى ما عليه وقد وفّى لله جلا وعلا بما أمره به ونهاه عنه ، ومن بعد ذلك من قصّر أو فرّط فحسابه على الله عز وجل .
ومن هنا فإن هذه الآيات والوصايا تشتمل على أصول المحرمات في الأقوال والأفعال وأصول الفضائل ، وأنواع البر فهي تجمع ما نهي عنه ، وما أمر به من الكليات التي تستقيم بها الحياة ابتداء من اعتقاد القلب ويقين النفس ، وانتهاء بفعل الجوارح والسلوك ، ومروراً بألفاظ اللسان وأقواله ، وتعريجاً على العلاقات والصلات والمعاملات والأحكام والتشريعات .. فهي شاملة لذلك كله ففيها قوام الدين كله ؛ لأنها تشتمل على جوهر هذا الدين العظيم ..
قل للمتبعين لأهوائهم الذين يقدمون الظنون على الحقائق ، والذين يحللون ويحرمون بحسب أهواءهم .. قل لهم : { تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم }
فإن الذي يحل ويحرم إنما هو ما ثبت بالوحي وجاء به الشرع الكريم ونطق به الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم ، ولقد كانت استجابة الأصحاب في زمن المصطفى عليه الصلاة والسلام استجابة فريدة نادرة ذلك أنه قال لهم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به )
فكانت استجابتهم ليست مقتصرة على مجرد امتثال الأمر واجتناب النهي بل المبادرة إلى ذلك في الفعل سبقاً وحرصاً ومبالغة ربما عند بعض الناس في بعض الأحوال، كما كان ابن عمر رضي الله عنهما يحرص على اقتفاء السنة وإتباع أثر النبي صلى الله عليه وسلم حتى ينيخ ناقته حيث أناخ النبي صلى الله عليه وسلم ناقته وحتى يستظل في سفره بالشجرة التي استظل النبي صلى الله عليه وسلم تحتها، فلا يدع شاردة ولا واردة ولا شاذة ولا فاذة إلا حرص أن يترسم فيها خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما قال ما قال وجاءه بعض الناس بأقوال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قال : " يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول لكم قال رسول صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر " .
ليبّن أن المعقد إنما هو في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن الأقوال إنما تفهم في ضوءهما وترجع إليهما وتنطلق منهما ، وما وافقها فهو الحق وما خالفها فربما كان اجتهادا وقع فيه خطأ .. وهكذا نرى من جهة أخرى جانب الانتهاء عن التحريم ، فلقد كان الصحابة رضوان الله عليهم كما وصف الحسن رضي الله عنه قال : " كان يدعون بينهم وبين الحرام سبعون باباً من الحلال " ؛ أي يتقون الشبهات ويبتعدون عن المحرمات بعداً عظيماً ؛ لما سيأتي ذكره في هذه الآيات والوصايا كما في قوله : {ولا تقربوا الفواحش } ؛ اجعلوا بينكم وبينها مسافة لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد قال : ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات يوشك أن يقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ) .
وكم هي أقوالنا اليوم هذا لا بأس به وهذا ربما كان ليس فيه شيء وهذا ربما كان من المكروهات فما زلنا نفعل هذا ونغض الطرف عن هذا ونقع في هذا حتى وقعنا في جملة أحوالنا في كثير من المحرمات إلا من رحم الله عز وجل .
روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم تحدّث إلى أصحابه يوماً وفي يده حرير وذهب وقال: ( إن هذان حرام على ذكور أمتي حلال على إناثها ) .
وكان في القوم رجل في يده خاتم من ذهب فنزعه من فوره ووضعه فلما انتهى المجلس قالوا له : لو أخذت خاتمك فانتفعت به . فقال : ما كنت لآخذه وقد طرحته لله ولرسوله .
مع حلّ ذلك لكنهم كانوا يريدون أن لا يكون بينهم وبين شيء من النهي صلة ولا تعلق .
ولما نزل قوله جل وعلا : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } .
لم تبقى لحظة واحدة ، ولا دقيقة واحدة قبل التنفيذ بل كانت المبادرة التي شُقت فيها قنان الخمر وسكبت الكؤوس من الأيدي ، ومُجت تلك القطرات من الأفواه ؛ لأن القلوب مسلمة لأمر الله ؛ لأن الإيمان مستكن فيها ومستقر فيها ولسان حالها كما قال جل وعلا : {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} .
هذه الآيات موجهة لهذه الحقيقة الكبرى وفي ظلالها، وبعد الآيات التي فصلت فيها فيما كان عليه أهل الشرك والجاهلية في زمان مضى وهي كذلك في جاهلية اليوم وأزمنة العصر الحاضر تختلف صورها تختلف مظاهرها لكن تتحد حقائقها وتتفق أصولها في مناقضتها ومخالفتها لأمر الله عز وجل وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
{قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم}
جملة هذه الوصايا فيها قيام الحياة كلها قيام حياة القلوب بالتوحيد والإيمان وقوام حياة الأسرة بالبر والإحسان وقوام حياة المجتمع بالعفة والطهارة وقوام حياة الإنسانية بالعدل والوفاء فالإسلام العظيم يربي الفرد ويقيم الأسرة ويطهر المجتمع ويظلل الإنسانية بعدالته.
دين كامل وتشريع عظيم هذه الوصايا موجزة في ثلاث آيات فحسب اشتملت على جملة من المأورات والمحظورات التي بها تستقيم حياة الناس جميعا مسلمهم وغير مسلمهم ؛ فإن الإسلام جاء بالعدل والإنصاف والوفاء بالحقوق وإعطاء الناس ما لهم ومطالبتهم بما عليهم ..
{ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } .
والآيات فيها أوامر وليس كلها محرمات قال المفسرون:
" إن ذكر أصول المحرمات يدل على ما يقابلها من المباحات وإن الله نوع بين نهي عن محرم وأمر ببر وواجب ليشتمل ذلك على هذا وذاك كل بحسبه في بلاغة القرآن المعجزة فبماذا كانت البداية .. "
{قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا }
أول الأمر وبدايته الإيمان بالله خالصا له سبحانه وتعالى ، والتوحيد له نقيا من كل شائبة ؛ ولعلنا هنا نقف وقفات عديدة ؛ لأن الناس يتصورن الشرك في تلك الأصنام التي كانت حول الكعبة في مكة، يتصورونه فيمن يسجد لتلك الأصنام أو يذبح لها ويقتصر ذهنهم وفهمهم على مناقضة التوحيد أو مخالطته بغير ما هو عليه وما هو منه بهذه الصورة فحسب !
ولذلك ينبغي أن ننتبه أن القرآن في هذه الوصايا بدأ بأكبر المحرمات وأفظعها وأشدها إفساداً للعقل والفطرة وهو الشرك بالله وتعالى ؛ سواء كان شرك باتخاذ الأنداد له - جل وعلا - أو باتخاذ شركاء يرى أنهم يشاركونه في تصريفه للأمور وتدبيره لها ، أو اتخاذ شفعاء يكونون عنده وسطاء ، أو اتخاذ تشريع وحكم غير تشريعه وحكمه الذي أنزله في كتابه وبلغه رسوله صلى الله عليه وسلم فكل شيء وكل ضرب من ضروب الشرك ينبغي أن يكون في أعظم قائمة المحرمات المنهي عنها التي تحفظ القلب والنفس ، والتي يقوم عليها البناء .. إذ التوحيد قاعدة بناء الإسلام : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً } ؛ لأنه عمل على غير إيمان لأنه عمل من غير توحيد : { ولقد وأوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } .
إن أمر توحيد الله عز وجل عظيم ففيه الاعتراف بربوبية الله - جل وعلا - خلقاً وتدبيراً ، والاعتراف بألوهيته - سبحانه وتعالى - خضوعاً وتعبداً ، والاعتراف بأسمائه وصفاته تعظيماً وإجلالاً ، إنه يشتمل على كل مشاعر القلب التي تخرج منه كل تعلّق بغير الله ، وكل رجاء في غير الله ، وكل خوف من غير الله ، وكل ذلّ لغير الله عز وجل ، ليبقى موحّداً قويّاً في صلته بربه سبحانه وتعالى ، وليبقى حينئذٍ ، وقد أقرّ بخلق الله وتدبيره ورزقه وإحيائه وإماتته وتصريفه لكل أمر ، عالماً بأن الذي أنعم ينبغي أن يُعبد ، وإذا عُبد ينبغي ألا يُشرك ، وإذا كانت له أسماء وصفات فليس له معها ولا بها ولا فيها أحد يشابهه {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } .
إن امتلاء القلب بهذه الحقيقة هو أساس هذا الدين كله .. هو الذي طهّر محمد صلى الله عليه وسلم به قلوب وعقول الكافرين والجاهليين ، فأصبحوا من خلّص أصحابه رضوان الله عليهم .. صفاء في توحيدهم ، وقوة في يقينهم ، ورسوخ في إيمانهم ، وتجرد في إخلاصهم ، وعظمة في تقواهم ، وصدق في توكلهم ، وقوة في ثقتهم بالله عز وجل ، وعظمة في حبهم له ، وشدة في خوفهم منه سبحانه وتعالى .
ذلك هو جوهر الإيمان والتوحيد .. ليس مجرد كلمات تقال فحسب ، وليس مجرد إتباع للأوامر فحسب ! بل هو ذلك الشعور الذي يستقر في سويداء القلب ، وفي أغوار النفس فيملك على الإنسان كل مشاعره ، وكل خواطره ، وكل أقواله ، وكل أفعاله ، وكل أحواله فيكون في كل حركة وسكنة وكلمة وسكتة يُعبّر عن صلته بالله عز وجل وتوحيده له سبحانه وتعالى .
وحقيقة الشرك بالله تعالى كما يقول السعدي في تفسيره :
" أن يعبد المخلوق كما يعبد الله ، أو يعظمه كما يعظم الله ، أو يصرف له شيئاً من خصائص الربوبية والألوهية ؛ حتى الذين يعظّمون غير الله تعظيماً يشابهه تعظيمهم لله فيخضعون لهم ويوافقونهم ويتابعونهم ويقرّون لهم بما يخالفون من شرع الله عز وجل ؛ فإنه يصدق فيهم ما صدق في قول الله عز وجل عندما تنزلت الآيات على رسول الله عليه الصلاة والسلام : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم } " .
ثم نبين بعد ذلك أمراً مهماً وهو ما يتعلق بصور كثيرة من معارضات هذا التوحيد التي - وللأسف الشديد - ربما فشت وانتشرت في ديار الإسلام إلا ما رحم الله ؛ ولعل أبرزها ما قلنا إنه متصل بهذه الآيات في معناها ؛ وهو تحكيم غير شرع الله ، والرضا بحكم غير حكم الله ، أو النظر إلى حكم الله وتشريع رسوله صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلح لهذا الزمان ! ولا يتناسب مع هذا العصر ! وأنه ينبغي لنا أن نغيّر ونبدّل ونحسّن ؛ حتى نظهر أمام المجتمعات الدولية بمظهر حضاري - كم يقال - ولست أريد أن أتحدث من تلقاء نفسي ، وكلام علماء الإسلام في القديم كثير .. أكتفي منه بنزر يسير لأنقل لكم أقوال علماء العصر في هذا الزمان من مات منهم ومن بقي في هذا الزمن ؛ لنرى أن القضية ليست قضية تشدد أو تطرف - كما يقال - بل هي قضية دين الحق آيات تتلى وأحاديث تروى ، مفاهيم واضحة ومعاقد عقدية فاصلة ، ينبغي أن تكون واضحة ..
قال الجصاص رحمه الله في هذا المعنى :
" من رد شيئا من أوامر الله تعالى ، أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الإسلام ؛ سواء رده من جهة الشك فيه ، أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم ، وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة " .
ويقول ابن تيمية رحمه الله :
" الإنسان متى أحل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء " .
فخطئوا فقهاء الإسلام كلهم ! وخطئوا إجماع الأمة كلها ؛ لتقولوا لنا إن مثل هذا القول يدخل في هذا الباب أو ذاك الباب أو هذا التصنيف أو ذاك التصنيف !
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية سابقا :
" إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين "
ثم ذكر القوانين الوضعية فرنسية وبريطانية مما يحكم أو يحكم به في بعض ديار الإسلام .
وقال ابن باز رحمه الله المفتي السابق:
" قد أجمع العلماء على أن من زعم أن حكم غير الله أحسن من حكم الله ، أو أن غير هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام فهو كافر ، كما أجمعوا على أن من زعم أنه يجوز لأحد من الناس الخروج على شريعة محمد أو تحكيم غيرها فهو كافر ضال " .
وكم نسمع اليوم من يأتينا بأمثلة قد ذكرها أيضا علماء العصر .. فقد ذكر الشنقيطي هذا الحكم فقال : " الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على لسان أولياءه مخالفة لما شرعه الله عز وجل على ألسنة رسله لا يشكُ في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم " .
ثم ضرب لنا أمثلة فقال:
" كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف بل يلزم استواءهما في الميراث، وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم وأن الطلاق ظلم للمرأة ، وأن الرجم والقطع ونحوها أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان ونحو ذلك .. "
وأظننا جميعاً نعلم أن مثل هذه المقالات تُقال وتكتب في الصحف ، وتسمع في الإذاعات ، وتُرى في المقابلات على الشاشات ويتحدث بعض الناس فيها على أنها سجال ورأي وحرية فكر ، ولا يفرقون بين حرية فكر وحرية كفر تنقض الدين من أصوله ، وتأتي على مناقضة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم !
وأختم بقول لشيخ الأزهر سابقاً محمد الخضر حسين يقول فيه :
" أما أن تفعل البلاد الإسلامية ما فعلته البلاد الغربية من تجريد السياسة من الدين فهو رأي لا يصدر إلا عمن يكن في صدره أن ليس للدين من سلطان على السياسة ، وهذا ما يبثه فئة يريدون أن ينقضوا حقيقة الإسلام من أطرافها ؛ حتى تكون بمقدار غيرها من الديانات الروحانية التي فصلها أهلها عن السياسة ، ثم صبغوا هذا المقدار بأي صبغة أرادوا ، فيذهب الإسلام فلا القرآن نزل ، ولا محمد صلى الله عليه وسلم بعث ، ولا الخلفاء الراشدون جاهدوا في الله حق جهاده ، ولا الراسخون في العلم سهروا في تعرف الأصول من مواردها وانتزاع الأحكام من أصولها " .
هذه أقوالهم تقول إن من يقول ذلك ينقض عرى الإسلام ويخلخل قاعدة التوحيد والإيمان .. نسأل الله عز وجل السلامة ، ونسأل الله عز وجل أن يثبت الإيمان في قلوبنا ، وأن يرسخ اليقين في نفوسنا ، وأن يجعل توحيدنا خالصا لوجه الكريم ، سالماً من كل شرك وشبهة رياء .. إنه ولي ذلك والقادر عليه أقول هذا القول واستغفر الله العظيم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
******
أما بعد :
أوصيكم أحبتي الكرام بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم ما يقدم به العبد على مولاه ، فاتقوا الله في السر والعلن ، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ..
ولنعلم أن هذه الوصية في أول ما بدأت به من التحذير من الشرك بالله عز وجل إنما هي مفتاح لما يريد الله عز وجل من الخير لأهل الإيمان والتوحيد ؛ لأن الإيمان والتوحيد هو أساس الأمر ومبدأه ومنتهاه { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } .
وفي الصحيحين من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ) .
وكذلكم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي أن الله جل وعلا قال: ( ابن آدم إنك ما لقيتني وأنت لا تشرك بي شيئاً وإن لقيتني بقراب الأرض خطايا لقيتك بقرابها مغفرة ولا أبالي ) .
وإذا أردنا أن ننتبه إلى الصور الكثيرة التي يعج بها واقع أمة الإسلام اليوم لوجدنا مخاطر كثيرة ينبغي الحذر منها وأكتفي بالإشارة إلى اثنين منها:
الأول: هو تقديم العقل على النقل
وكم نرى اليوم من ينظر إلى الأحكام والتشريعات فيقول هذه لا تتفق مع العقل .. فكيف يمكن أن نطبق هذا ؟ وكيف نستطيع أن نفعل هذا إن هذه الأحكام لا تتطابق مع مقتضى العقل وحقيقة المصلحة ؟ وكم سمعنا ذلك حتى في أحكام قد يرونها يسيرة .. فكم تسمع من امرأة أو رجل يجادلك في تشريع الله عز وجل في حجاب المرأة المسلمة ، ويناظر في ذلك بأمور يزعم أنها من العقل وحقيقتها أنها من الهوى ، ويزعم أنها عليها دلائل من الحقائق وهي ضلالات من الأوهام .. وكم نرى صوراً من ذلك في واقع الحياة .
وثانيهما: وهو مما عد اليوم من المحظورات التي ينبغي أن نكف ألسنتنا عنها ، وأن نمنع أقلامنا من الكتابة فيها ، وأن نعطلها من التدريس والتعليم .. أتعلمون ما هو هذا الأمر ؟
أمر تنزلت به الآيات من عند الله عز وجل لا يمكن لأحد من الخلق مهما كان أن يمحوها ويلغيها ! بل لا يستطيع أن يغيّر حرفاً واحداً منها مهما كان شأنه ، ومهما قال وأجلب .. إنها الحقيقة التي أريد أن أكشفها لكم بالآيات وبما جاء في كتاب الله عز وجل { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } .
ويقول الحق جل وعلا : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون الله }
ويقول كذلك : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم } .
إنه أمر الولاء والبراء .. المحبة لله والبغض في لله .. إنه أمر يصورونه على أنه مناقضة للعدالة أو مخالفة للسماحة ! وليس شيء من ذلك فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعدل الخلق وأسمح الناس وأرأفهم بالخلق جميعاً ، ودعا وبصّر وأهدى غير المؤمنين لكنه علم وعلَّم أن بغض الكفر في ذاته وبغض الفحش والفاحشة في ذاتها أصل مرتكز من عقيدة المؤمن ، وبيّن أن أهل الكفر إن عادوا وإن ناصبوا العداء وإن كادوا واستخدموا أساليبهم في المكر والدهاء ؛ فإنه لا ينبغي لمؤمن يؤمن بالله ورسوله إلا أن يكن بغضهم ، وأن يعتقد عداءهم وأن يسعى إلى مواجهته وذلك ما فعله رسول صلى الله عليه وسلم ، ويوم جاءت المواقف الفاصلة بين إيمان وكفر، مضى بعض الأنصار إلى حلفاءهم من اليهود في المدينة ينشدونهم النصر ويطالبونهم وفاء بعهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكلوا وتخاذلوا وأحجموا فأي شيء قال ذلك الصحابي :
" اللهم إني أبرأ إليك من هؤلاء وحلفهم وأكون مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم " .
وفي هذه الحادثة تنزل قوله جل وعلا : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } .
وكثيرة هي الصور التي قد نراها مخالفة لحقيقة التوحيد في صور غير سجود لصنم ، وغير بقاء عند قبر .. وإن كان ذلك كله من الأوهام ومن المعارضات ومن المناقضات التي تجرح التوحيد ، وقد تنقض أصله وتدخل صاحبها في دائرة الشرك أو الكفر أصغر أو أكبر كل بحسبه وبحسب حكمه .
إذاً أحبتنا الكرام :
أول ما حرّم الله علينا هو أن نشرك به شيئاً ..
إن التحريم لهذا تحريم قاطع هو أساس كل ما يأتي من المحرمات والمأمورات .. فنسأل الله عز وجل بأن يبرئ قلوبنا من الشرك به ، وأن يطهر نفوسنا من الشرك به ، وأن يطهر عقولنا من الشرك به ، وأن يجعلنا أعظم اعتماداً عليه ، وأصدق توكّل عليه ، وأشدّ إخلاصاً له ، وأعظم خوفاً منه ، وأصدق ثقة به ، وأن لا يجعل في قلوبنا من خوف ولا رهبة ولا رجاء ولا تعلق إلا به سبحانه وتعالى ..