لطالما سمعت من والدي ان انزال الدموع ليس من شيم الرجال.. و ان البكاء ضعف.. و مذلة .. و قلة حيلة..
و حاولت المرة تلو الاخرى ان التزم بشعار والدي.. ان اكون رجلا لا يبكي..و لا يضعف.. و لا يقهره الزمن..
عندما انهيت دراستي الجامعية بتفوق.. و اجتزت مباريات عدة.. و قدمت طلبات عمل كثيرة.. ووقفت في احتجاجات لا تحصى..و نزل على راسي من العصي و الهراوات ما لا اذكر عدده..وواجهني بعد كل هذا الرفض.. و عدم القبول.. و رايت من هو اقل مني شهادة و تحصيلا..يعتلي ارفع المناصب .. و يحصل على اعلى الرتب ..لم ابك.. و لم ادع مجالا لتذرف عيناي الدموع..
عندما تقاذفتني حياة البطالة.. و هزمني الفراغ..و قهرني ان امد يدي لابي _ وهو الرجل الفقير_ ليضع في كفي بعض وريقات مالية.. لاحلق ذقني..او لابتاع بعض اغراضي.. استحملت .. و كتمت دموعي..
عندمت عصف بقلبي العشق.. و هامت بوجداني الاحلام.. و تراقص بين الاضلع لهيب الشوق.. ووجدت نفسي غير قادر _ و انا في السن الزواج_ ان يكون لي بيتا يضمني مع من هفا اليها الفؤاد.. و سمت اليها الروح..لم ابك.. بل التقطت دموعي.. و شحنت بطاريات الصبر..
و عندما تناسيت شهادتي.. و تناسيت سنين التحصيل.. و ايام و ليالي الحرمان من اي متع الدنيا.. من اجل الانكباب فقط على الدراسة.. تناسيت كل هذا.. و رميت نفسي في مختلف المهن التي لا علاقة لها بدراستي.. فقط كان علي ان اشتغل.. ان ازاول اي مهنة لاعول نفسي.. لاكون رجلا لا يمد يده .. و لا يضعف ..و لا يبكي..
و كنت اقابل كل هذا .. بالمزاح.. و اطلاق النكت.. و رسم ضحكة كبيرة على وجهي..
لكن الايام كانت تمر..و بعدها شهور كثيرة..تحولت لبضع سنوات..و انا احاول ان لا تذرف عيناي الدموع..
و تزوجت..و انجبت زوجتي.. و عندما اخبرني الطبيب ان المولود عليلا..و انه يحمل مرضا مزمنا..و ان علاجه يتطلب الكثير من المصاريف و التكاليف..احسست لاول مرة بغصة تخنق انفاسي.. احسست بنيران متاججة تحرق ما بقي في الفؤاد من صبر و جلد..فما كان امامي الا ان اعلن تمردي _ و لاول مرة_ على شعار والدي .. و اطلق العنان لدموعي.. بكيت خلسة.. نزلت دموعي في الخفاء.. حتى لا اعلن انهزامي امام الاهل.. و امام الحياة التي لا تفتأ تجاهرني العداء.. و تصوب نحو الصدر الطعنة تلو الاخرى..
و كان علي بعدها ان افعل شيئا.. اي شيئ.. ان اهزم الحاجة.. ان العن الاستسلام..ان اوفر مصاريف العلاج لابني.. و ان ابحث عن مصدر رزق آخر.. و لم تكن امامي الكثير من الخيارات..
وجدتني بعد اسابيع..اتسلل في ليلة انطفأ بريقها..و اشتدت فيها الزوابع داخل اعماقي.. و اعتملت شتى لواعج الاسى و الحزن بين جوارحي.. وجدتني اغادر متسللا الى اسبانيا.. لا تهم كثيرا تفاصيل هذا التسلل..فرغم ما رافقه من خوف و ترقب و مغامرة و صعوبة..الا انه لا يختلف عن تجربة اي مهاجر سري.. يجد نفسه مضطرا ذات ليلة لرمي نفسه بين امواج البحر.. للوصول الى الضفة الاخرى.. و ربما يقضي نحبه قبل الوصول..تاركا وراءه الاهل و الاحباب يعتصر قلبهم القلق و الالم.. و لوعة الفراق..
ووجدت نفسي في بلد غريب..و ملامح و ان كانت معتادة.. فهي غريبة.. اسير يلفني المجهول..و يطاردني الماضي.. و يحاصرني الحاضر..
انتابني الجزع في البداية..احسست ان هذا ليس مكاني.. و لا ارغب بالبقاء في هذا البلد لحظة واحدة..بلد ظاهره الرحمة.. و باطنه العذاب و القسوة..
كيف يمكنني احتمال وجودي بين اناس لا اعرفهم.. و لا يعرفونني..لا احد يمكنه ان يسال عني..او يطمئن عن حالي..
لن يعرف احد ان كنت جائعا او مريضا.. سعيدا او حزينا..
لن يدعوني احدا ان جعت لاشاركه وجبته..او يسمح لي ان انقطعت بي السبل ان ابات تحت سقف بيته..
كل من هنا يفكر بنفسه فقط.. لا احد يشعر بوجودك او بمعاناتك..
ولاول مرة اعرف معنى الغربة..كنت فيما مضى اعتقد اني اعرف معناها..فاذا بي لا اعرف منها غير الحروف فقط.. الغربة ان تحتاج للتكلم بلغتك فلا تلقى احدا يفهمك.. ان تحتاج لمعانقة الاهل .. فلا تجد الا الوجوه الغريبة.. ان تحتاج لمن يربت على كتفك في لحظة اسى.. ان يمنحك ابتسامة امل في لحظة ياس.. ان تحس بالامان .. بالدفء.. بالحنان..
لكن مع الاصرار .. كل شيئ يصبح قابلا للتعود..تعودتني غربتي..و تعودتها على مضض..و بانكسار و استسلام..
و مرت بي الايام.. و الشهور.. و السنوات..تقاذفتني خلالها مزارع الفواكه.. و حقول الخضر.. و اوراش البناء..
كان علي ان اشتغل ليل نهار لاوفر لفلذة الكبد مصاريف العلاج.. غسلت صحونا.. و رويت حدائقا.. و نظفت مسابحا.. و بعت ثيابا مستعملة في اسواق باهتة الرائحة..
كنت اعمل كل هذا و كلي امل ان تتاح لي الفرصة للحصول على عقد عمل.. و بالتالي الحصول على اوراق الاقامة.. و الا فلن استطيع ان ارى اهلي و احبابي..
لكن السنوات كانت تمر بطيئة دون ان يتحقق هذا الامل .. و اصبح سعارا من الشوق يحرق صدري لرؤية ابني الذي تركته وليدا.. اريد ان اراه وهو يحبو.. وهو يخطو خطواته الاولى.. وهو ينطق باولى كلماته..
اريد ان ارى اول سن يبرز في فمه العذب.. اريد ان امسك بيده البضة و امضي معه في الطرقات.. في الساحات.. في الملاعب..
اريد ان اراه يشير الى الاشياء التي يتلهف عليها الاطفال .. فاقتنيها له..و ارى الفرحة تشرق في مقلتبه..
يا الله ..اعرف ان احلام الرجال كثيرة..يحلمون بالمال.. يحلمون بالمجد..يحلمون بافخم البيوت..و باغلى السيارات.. يحلمون بمعانقة اجمل النساء.. و بزيارة ابعد البلدان..
لكن حلمي يختلف عن احلام بقية الرجال..حلم ابسط من هذا بكثير.. لكني لا اعرف كيف احققه..
احلم ان احضن ابني.. ان اضمه لصدري..ان اغرق وجهي بين كفيه الصغيرين و ابكي بحرقة.. بلوعة.. احلم بان اسمع صوته.. ان اشم ريحه.. و اتنفس ملامحه..
لم يعد الحديث معه بالهاتف يكفيني.. لم يعد يطفئ حرقة الشوق.. و لا يروي ظمأ الحاجة لرؤيته..
و حتى عندما حاولت زوجتي ان تاخذه لمقهى انترنت لكي اكلمه صوتا و صورة..عاكستني الاقدار.. فلم تظهر الصورة..
غيرت اكثر من مقهى.. و غيرت زوجتي اكثر من حاسوب لعل الامل يتحقق..وارى صغيري..ارى فرحة عمري..ارى قطعة روحي..
كم تمنيت ان اراه ولو للحظة.. لثانية فقط..ان اراه و بعدها فلتتعطل اجهزة العالم باسره..ان ينقطع الاتصال عن الكون كله..
لكن الامل لم يتحقق..
عدت يومها الى الغرفة البئيسة التي اكتريها.. و انتحبت كطفل صغير.. بكيت بحرقة..بكيت بلوعة.. بكيت كما لم ابك من قبل..
و نسيت تماما ما كان بقوله والدي عن بكاء الرجال..
قبل اسبوع كلمني احد اقاربي.. قال انه حصل على تاشيرة الدخول للاراضي الاسبانية..و انه سياتي لزيارتي..كان لي عنده طلبا واحدا.. ناجوته:(صور ابني.. ارجوك احضر معك صور ابني..صوره و هو رضيعا..وهو يحبو.وهو يمشي..صوره في اول يوم له في الروض..ارجوك ..اريد الكثير من صوره..اريد ان اعيش معه لحظات نموه من خلال الصور.. لا تنسى.. ارجوك لا تنسى..)
لم يكن صباحا عاديا ذاك الذي سيصل فيه قريبي..قررت من لهفتي ان اقطع مئات الكلمترات لاستقبله في الميناء..
وصلت قبله بحوالي ساعة.. رائحة البحر اشعلت في صدري الحنين للوطن..تذكرت مدينتي.. اين من عيني انت يا تطوان.. ببيوتك البيضاء.. و الجبال تحرسك من كل جانب.. تحيط بك كما تحيط الاشبينات بالعروس ليلة زفافها..
تذكرت شاطئك يا مارتيل..و اماسي الصيف الحلوة اللذيذة..تذكرت الصحاب..و ايام الصبا..و الاحلام الوردية..حين كان القلب خاليا الا من صوت ضحكاتنا و نحن نتقاذف الكرة في الهواء..و نرمي ببعض في مياه البحر..
شبابي تركته هناك..فرحتي هناك..ارضي..اهلي .. ابني..
انهم وراء هذا البحر..على مرمى البصر..اكاد اراهم..اكاد اشم رائحة تربة بلدي يعد سقوط الامطار..اكاد ارى لون الربيع و تفتح الازهار..اكاد المس الوجوه .. و العيون..
نصف ساعة فقط هي المدة التي تفصلني لاضمهم..لارتمي بين احضانهم..
نصف ساعة فقط لاقطع هذا البحر في قارب سريع..ومع ذلك هم ابعد ما يكون..لان هناك قوانين تحرمني ان اجتاز هذا اليم لاروي شوقي..و اروي حاجتي اليهم..
هذه النوارس التي تحلق فوق راسي تذكرني بقوارب الصيد في مدينتي.. و هذا النسيم الدافئ الذي يمر بوجهي اعرفه..انه آتيا من هناك..من بلادي..كاني اراها..ارى شاورعها..اشم رائحة الاطعمة اللذيذة المنبعثة من البيوت.. و الحواري..
ارى صورة ابي..فاحس اني لم اف بوصيته..لان الدموع كانت تغسل وجهي.. لم يعد يهمني ان اكون رجلا و ابكي.. ابكي حرقتي.. ابكي غربتي.. ابكي عذابي.. ابكي حرماني..
حاولت ان اتماسك عندما رايت قريبي مقبلا..مضيت نحوه بينما كانت عيناه مازالتا تبحثان عني..ناديته.. فوقف كالصنم..هرولت فاتحا ذراعي لاعانقه بينما مازالت نظرات الدهشة تملا وجهه ..سالني باستغراب :( اهذا انت؟؟؟لم اعرفك يا صاحبي ؟؟؟)
ولاول مرة احسست ان خمس سنوات من الغربة و الشقاء.. جعلتني اكبر بضعف عمري..و لاول مرة انتبه لمعصمي و كفي ممدودة ليد قريبي فاراه اصبح نحيفا.. هزيلا.. مجرد جلد يكسو العظم..
عندما وضعت صور ابني امام ناظري..شعرت لوهلة باني سافقد وعيي.. لم اتصور انه بهذا الجمال ..كيف لطفل مثل هذا ان يحرم من وجود والده الى جانبه.. و كيف لقلب اب ان يحتمل بعده عن ابن بهذه الروعة..رايته كاجمل الاطفال.. كاروع الاطفال..
احسست بمئات الخناجر تنغرز في صدري.. تمنيت ان اركض في ارض فضاء.. و اصرخ .. و انتحب..و انفجر كبركان ضاق بالحمم التي تحترق داخله..
من يومها و انا انتحب كالثكالى.. لم اعد اكتفي بالبكاء في ظلمة غرفتي..اصبحت ابكي و انا اشتغل.. ابكي و انا نائم.. ابكي و انا استيقظ.. ابكي و انا اسمع صوته ياتيني عبر الهاتف..
لم اعد اخفي دموعي.. لم اعد اخجل منها..
كل يوم انشر صور ابني امامي..و اضمها بحرقة..و انتحب بجنون..حتى لاتمنى لو لم ار هذه الصور..اتمنى ان اعود من عملي ذات مساء فلا اجد لها اثرا.. لانها اصبحت عذابا.. اصبحت سيخا من نار يشوي قلبي.. و يحرق كبدي..
طوبى لكم ايها الآباء الذين تنعمون بالقرب من ابنائكم..و تسعدون بحضنهم .. و تنامون بين عيونهم..
و سامحني يا ابي.. لانني لم اف بعهدك..سامحني لانني لم اكن الرجل الذي حرصت على تربيته.. الرجل الذي لا يبكي..و لا يستكين.. و لا يقهره الزمن..
و اعترف باني رجل يا ابي..و لكنه ضعف من شدة الحرمان..و قهره الزمن لسنوات طويلة..و تجرع كاس العذاب حتى الثمالة..فلم يجد الا الدموع لعلها تطفئ بعض اللهيب الذي يشتعل بين الضلوع..
سامحني يا ابي ..لاني ساظل ابكي..ليس لاني لست رجلا..بل لاني انسانا.. يحمل في قلبه قلبا يشتاق..و مشاعر تحترق..و احاسيس ضنى عليها الزمن..
و مع ذلك اعدك يا ابي اني لن استسلم.. و ساظل اشتغل.. و سابقى احاول ان احصل على اوراق الاقامة..
سيظل هناك دائما بارقة امل تشرق في قلبي..تسلط عليه بعض النور.. و بعض الدفء..
و عندما يتحقق هذا الامل.. و عندما القاك يا ابي..اغفر لي ان بكيت في حضنك.. و ضمني اليك..لاني اعرف ان ما يختلج في صدري الان اتجاه ابني.. هو نفسه ما يتخبط في اعماقك اتجاهي.. انه الشوق للابن.. لفلذة الكبد..
و لن استغرب ان امتزجت دموعنا يا ابي.. لاني تاكدت انه حتى الرجال .. اقوى الرجال.. يذرفون الدموع.