يقف خارج قاعة المحكمة ينتظر في سكون انتهاء المحلفين و القضاة من مناقشة قضيته..سكون تام..صمت رهيب..بينما شلالا هادرا من الاطياف و الافكار تتراقص امام عينيه..تتشاغب في ذاكرته..و نظرات الحراس اليه كانت مزعجة..مقيتة..فيها الكثير من الازدراء و السخرية..
يشيح بنظره عنها في حزن..بينما مئات الاصوات..و آلاف الصور..تنهال على راسه..
صادف العديد من الصعاب و المطبات بحياته..لكنه لم يدر بخلده يوما ان يكون متهما في قضية قتل..في بلد غريب عنه .. يسمى امريكا..
لم يعد امامه ما يفعله الان سوى الدعاء..و سيظل يدعو كما تعود ان يفعل دائما..عندما تشتد عليه الازمات..و تضيق من خناقه النكبات..
لكن هذه النكبة ليست كغيرها.. انها جريمة قتل متهما فيها..قتل شخصين من اعز الناس اليه في هذا الموطن الجديد..كان يخاف عليهما من النسيم اذا مر عليهما..فكيف له ان يمد يديه للفتك بروحيهما..و تعجيل نهايتهما..
و تتقاذفه التساؤلات و الهواجس..من فعل هذا بالزوجين العجوزين الطيبين ؟؟؟ و من رمى به الى هذه المحاكمة التي قد تودي بحياته هو الاخر..و تضع حدا لاحلام لطالما رسمها..و تحمل اشد العذاب.. و تجرع العلقم قطرات من اجل نحقيقها..و الوصول اليها..
و الان.. بعد ان اصبحت على بعد خطوة منه..يجد نفسه مغلولا..متهما..يقبع في زنزانة حقيرة..باردة..يتعرض فيها لشتى انواع الاهانة و التحقير و الشماتة..و الاسوا.. للضرب المبرح من طرف السجناء..و التعنيف الجسدي..مما يجعله يفقد وعيه..و يرمى في المستشفى لايام عديدة..
و اليوم..ينتظر حكم القاضي في تهمته هذه..و كلما فكر في الاحتمالات التي يمكن ان تنطق بها المحكمة..يجد انفاسه تنحبس..و يحس كانه يسقط في هاوية سحيقة لا قرار لها..
و الاطياف لا تتوقف..تمر امام عينيه كشريط بائس..يرى صورا لا يربطها منطق..و لا يجد لها تفسيرا..سوى انها تزيد من عذابه في لحظته هذه.. صورا تختلط بين الماضي و الحاضر.. صورا لا علاقة لها باي شيئ..مجرد افكار تتساقط على راسه كما تتساقط اوراق الخريف..تظهر و تتوارى اتباعا بشكل متقطع..و بطيئ..تتراقص كخيوط و دوائر امام عينيه..تتراءى له اشجارا من دخان..خيول تجري..طفلة بشعر خشن و بشرة فاحمة تمر بيدها زهرة..حقل فسيح..انعكاس الضوء على اعشاب بجانب الطريق..ازهار تتهاوى..نباح بعيد..زخات مطر..نهر شحيح يعانق الاراضي القاحلة..شجرة تساقطت اوراقها..و جفت اغصانها تقف وسط البيت القديم..ابتسامة امه الاخيرة..وجهها الشاحب و هي تحضن يديه الصغيرتين و تدعو له..المقبرة الصامتة..الشمس الحارقة التي تمتص دموع حرقة الفراق.. و لوعة الوداع الاخير..
كيف يمكنه ان يوقف هذا الشلال من الافكار الذي يتهاوى على راسه..يحس بحنجرته جافة..يتذكر انه صائم و قد حان وقت افطاره..طلب من الحراس بعض الماء..الا انهم قابلوا طلبه بمزيد من السخرية و الجفاء..
راى شرطية تقترب منه..بشرتها الطافحة بالسواد توحي انها من اصول افريقية مثله..ناولته الماء..اخرجته لبعض الوقت من دوامة الافكار التي يتخبط فيها..كانت تنظر الى الكتاب الصغير الذي كان بيده طوال الوقت..اخبرته بان زوجها كان مسلما..لكنه توفي من شهور..
كان يهز راسه و هي تتحدث عن زوجها..بينما هربت منه افكاره من جديد..رائحة الماضي تابى ان تفارقه..جراح دفينة تتدفق..تنشق كبيضة تطرد فرخا عنيدا..تتراءى له تلك المراة التي تزوجها والده بعد وفاة امه..فمها القاسي المائل الى احدى جوانب وجهها مازال مرسوما بذاكرته.. عصاها الغليظة التي كانت تهوي بها على ظهره..نبع الماء البعيد..الجرار الثقيلة..الارض الشحيحة التي عليه ان يرعاها..و حلم الهجرة الذي بات لا يفارقه..كان يود ان يهرب من ذلك الجحيم..فالقى بجسمه اليافع عندما انيحت له اول فرصة في قارب بائس..يحمل العديد من المهاجرين السريين.. و يحمل احلاما ازهارها ذات اريج مختلف..اريج اخاذ لا يمكن مقاومته..
لكن اولى باقات الازهار ذبلت و شحبت عندما القى به البحارة وسط اليم مع مجموعة من المهاجرين ليخففوا من حمولة القارب..القوا بهم دون ان تهنز جفونهم..او ترتعش قلوبهم..كانهم مجرد اكياس فضلات..مجرد وزن زائد لا قيمة له بالحياة..
يا الله!!! ذكره البحر الذي كان يوما يواجه الموت بين امواجه بقضيته هذه..كلاهما قد يغرقه لحد الموت..
لكنه لن يفقد الامل في رحمة الله..فكما انقذه الله من الغرق..و ان يكون طعاما للحيتان بالذكر و الدعاء..يجد نفسه الان.. لا ملجا و لا منجي له من هذا الكرب الا الله سبحانه و تعالى..
يتذكر كيف غرق كل من كان معه من مهاجرين..كيف اختفوا في غيابات البحر الواحد تلو الاخر.. وظل يقاوم..و يدعو ..و يناجي ربه..الى ان لاح في الافق قارب صيد..حمله الى ارض الاحلام..حيث وضع في دار لرعاية القاصرين نظرا لصغر سنه..لكنه لم يمكث هناك طويلا..اذ سرعان ما تبنته اسرة امريكية..مكونة من زوجين طيبين تقدما بهما السن..و حرما من البنوة رغم وجود ابن من صلبهما.ابنا كان عاقا..ارهقهما عصيانا و طغيانا..و ضاقا ذرعا بتصرفاته الطائشة..و انفلاتاته الهوجاء و المتكررة..انتهت بتركه لهما يعيشان الوحدة..و انصرافه للعيش بعيدا عنهما..و انقطعت اية صلة له بهما..
لهذا تبنيا هذا الصبي الافريقي اليافع..و فتحا له قلوبهما المتعطشة للدفئ الاسري..و الحنان الابوي..
و استقبل هذا الغلام عطفهما بحب .. و تقدير ..و تفاني في خدمتهما و برهما..كانهما والديه اللذين انجباه..
في نفس الوقت انكب على الدراسة بشغف و مواظبة منفطعي النظير..
و كبر الفتى ..و اشتد ساعده..و لم تتعبه و لم تؤثر عليه الاعمال الشاقة التي كان يزاولها رغبة منه في الاعتماد على نفسه..بل زادته قوة..فاصبح متين الجسم..مفتول العضلات..
و كان كل ما يشغله بحياته ..صلاته..دراسته..عمله..و بره لهذين الزوجين الطيبين..برا افتقداه حتى من فلذة كبدهما..فوجداه في هذا الابن المتبنى..حتى عندما مرض الرجل العجوز..و ظل لايام يرقد بالمشفى..كان الشاب لا يفارقه لحظة..يجلس عند راسه..يطمئنه..و يقرا له القرآن الذي يرتاح الرجل المسن لسماع تلاوته رغم انه غير مسلم..و رغم جهله بمعناه..حتى انه كان يفكر باشهار اسلامه..
استقل الشاب فيما بعد سكنا مستقلا بمباركة العجوزين..و رغم ذلك ظل مواظبا على زيارتهما .. و الاطمئنان عليهما..و برهما..
ولم يكن يفعل هذا كواجب..او كرد للجميل..بل يفعله لانه يحبهما..و يحتاج في غربته هذه ..الى الاحساس بوجودهما بحياته..و الشعور بان هناك من يبادله مشاعر المودة ..و انه يوجد من يخاف عليه ..و يقلق لغيابه..
وكان كثيرا ما يجلس يحلم..باليوم الذي ينهي دراسته ..و يتخرج طبيبا..و تتحسن احواله المادية ..فيتمكن من استقدام اخوته و اسرته للعيش معه هنا..و تخليصهم من الفقر..و البؤس الذي يعشش على حياتهم في القارة السمراء..
لكن ..كل هذا اصبح الان مجرد اطياف تمر بالذاكرة..بقايا سراب معلق على مراى البصر..لان ما يذكره بعد هذا ..اسوا مما كان يتوقعه..كل ما بقي راسخا في ذاكرته..هو صوت احذية الشرطة الثقيلة و هي تطا ارض بيته..ايديهم الغليظة..وهي تطوقه..تضع الاصفاد في عقله..و السلاسل في يده..لم يعد يعي ما يحدث و ما يسمع ..احقا يحدث هذا؟ هل هو فعلا الان متهما بقتل اعز شخصين في هذه البلاد القاسية؟ كيف يمكن ان يقتل من رعاه و كفله و سعى لتدريسه و لجعله رجلا متميزا في مجتمع لا يعترف الا بالناجحين..
الصحافة انطلقت تنهش صورته ككلب مسعور..جعلت منه نموذجا للافريقي المتسلل للبلاد من اجل التنكيل باهلها الامنين..وصفته بالناكر للجميل..القاتل الوحش الذي وضع نهاية لعجوزين ضعيفين رعياه..و توليا امره..من اجل سرقة اموالهما..و مقتنياتهما الثمينة..
كانت كل هذه الاتهامات طعنات توجه لكرامته..توجه لقلبه الذي احب بكل صدق العجوزين..فكيف له ان يؤذيهما؟؟بل اكثر ما يحز في نفسه وهو في كربه هذا..انه افتقدهما..انه لن يراهما بعد الان..و لن يجد في هذه البلاد كلها بعد هذا من يسال عنه..او يخاف عليه..
لهذا كان التجاؤه لله..ودعاؤه..هو الامل الذي مازال و سيظل معه لآخر لحظة بحياته..لن يفقد امله في رحمة ربه..وهو على يقين ان الله لن يتركه يدفع ثمن ذنب لم يقترفه..لهذا كانت احيانا تملا وجهه ابتسامة الرضى..و السكينة..تجعل الحراس الذين يحيطون به في محاكمته ينظرون الى بعض في دهشة و استغراب..
علم من المحامي ان العجوزين كتبا له ثلثا تركتهما..و كان هذا امرا يجهله..
قدم الادعاء ما يمكن تقديمه من ادلة و دوافع..لوضع ذلك الشاب الافريقي في النهاية فوق كرسي كهربائي ينهي حياته..النافذة الصغيرة التي اخترقها..البندقية التي تمت بها الجريمة..شهادة جار مسن رآه خارجا يجري في العتمة..
لكن بينما كانوا يخططون لادانته..كان الله يظهر حقائق تثبت عكس ذلك..
لا اثر لبصمات..لم بتم ضبط اي مسروقات لدى المتهم..و حتى النافذة الصغيرة التي وجد عليها اثر الخلع من اجل التسلل..لم يكن يستطيع ان يخترقها نظرا لضخامة جسمه..
بينما الشاهد الوحيد كان يقول باستمرار وهو ينظر للشاب اثناء المحاكمة..بانه عسكري قديم..و سبق له ان حارب في الفتنام..و بانه يعرف وجوه القتلة كيف تبدو..و اكد ان هذا الشاب الافريقي الحزين ليس له سمات القتلة المجرمين..و اكد ان من رآه يتسلل هاربا وسط الظلام..كانت بنيته ضعيفة..و جسمه ضئيل.. وهذا يؤكد ان المهاجر الشاب بريئ من التهمة الموجهة اليه..
طالبت احدى المحلفات باعادة النظر في كل القضية..تم نقاش الامر لوقت طويل..بدا كانه دهرا بكامله..لكن خيوط الفجر بدات تلوح.. و تتسلل..لتسلط نورا وهاجا كشف الظلمة..و اظهر الحقائق..ليتبين ان القاتل..هو الابن..الابن الحقيقي..الابن العاق الذي لم يكفه عدم برهما..بل تجاوز ذلك ليضع نهاية لعمرهما..
و ليظهر للجميع .. و بشكل جلي..و بحقائق ملموسة..ان الابن المتبنى بريئ مما نسب اليه براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام..
و ليتجلى للمجتمع الامريكي كم يكون ظالما حينما يسرع بتحقير المهاجرين.. و اتهامهم بالوحشية..ووصفهم بانعدام المروءة..و نكران الجميل..
و رغم ان بعض الصحف سارعت للاعتذار عما نشرته على صفحاتها من تهكم و تحقير للشاب..و لكل مهاجر افريقي..و رغم خروجه من هذه القضية بايمان اكبر..و عزيمة قوية..الا ان قلبه كان ملبئا بالاسى و الحزن لفقد الابوين اللذان تبنياه..و لم ير منهما طوال حياته الا خيرا..
هذه قصة حقيقية..ظل يسردها المحامي العربي _ الذي كان يدافع عن الشاب_ لكل من يصادفه..يحكيها بشجن و اسى..لانها شكلت منعرجا في حياته المهنية..نظرا لظروف الشاب الافريقي..و نظرا للصعوبات التي واجهها منذ طفولته..و حياة القسوة و الحرمان التي عاشها..
هذه الظروف دفعته للتقرب الى الله.. و مناجاته في السر و العلانية..فلم يتخلى عنه خالقه ابدا..ووجد له مخرجا حين اغلقت في وجهه كل المخارج..و اوصدت امام عينيه جميع الطرق و المسالك..فما خاب ابدا من فوض امره لله عز وجل..و ما ضل من جعل التقوى و الايمان نورا يهتدي به حينما تشتد عليه الكربات..و تظلم امام ناظريه الطرقات..
و سبحان من جعل لكل هم مخرجا..و لكل كرب فرجا