عندما جاءت سيرة الجاحظ ومؤلفاته ونحن بمدرج الجامعة..ابيت الا ان اطلع على بعض هذه المؤلفات..و قد اخترت من بينها كتاب البخلاء لما اثاره عنوان الكتاب في نفسي من فضول لمعرفة محتواه..
و كم كانت دهشتي كبيرة عندما لاحظت ان الكتاب ليس فقط يحمل كما هائلا من نوادر البخلاء..بل هو دراسة نفسية لهذا الشريحة من الناس ..صور فيه الجاحظ تصويرا واقعيا و بشكل فكاهي حركاتهم و سكناتهم..نظراتهم القلقة..و نزواتهم النفسية..وسيرهم ..وسائر احوال حياتهم.
لكن لماذا مؤالف بهذا الحجم عن البخلاء؟و اساسا ما هو البخل؟
البخل صفة مذمومة عند الشعوب على اختلافها..وهو في اللغة الامساك عما يحسن السخاء فيه..بمعنى انه ضد الكرم..وهو بالتالي صفة موجبة لهوان صاحبها و مقته و ازدرائه..
و قد عاب الاسلام هذه الخصلة و حذر منها اذ قال سبحانه و تعالى في كتابه العزيز:(ها انتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فانما يبخل عن نفسه و الله الغني و انتم الفقراء) سورة محمد الاية 38
و قال ايضا سبحانه و تعالى:(و لا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم , بل هو شر لهم , سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ) سورة ال عمران الاية 180
و قد ورد في صحيح البخاري عن مصعب بن سعد بن ابي وقاص عن ابيه رضي الله عنه قال: (ان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا هؤلاء الكلمات كما تعلم الكتابة ; اللهم اني اعوذ بك من البخل , و اعوذ بك من الجبن , و اعوذ بك من ان نرد الى ارذل العمر , واعوذ بك من فتنة الدنيا و عذاب القبر).
و يلاحظ من خلال التاريخ الادبي ان البخل و البخلاء مادة غنية للفكاهة ..خلدها الادباء في مؤلفاتهم و الشعراء في قصائدهم..
و اذا كان الكرم سجية تدعو للمدح و الفخر..فقد كان البخل مادة للهجاء و الذم ..و قد ارتايت ان اختار بعض الابيات لثلة من الشعراء هجوا اناسا اشتهروا ببخلهم و شدة شحهم..فهذا ابن الرومي يقول عن رجل شحيح:
يقتر عيسى على نفسه """"" و ليس بباق و لا خالد
فلو يستطبع لتقتيره """" تنفس من منخر واحد
و عن ابي نواس يصف بخيلا يدعى الفضل:
رايت الفضل مكتئبا يناغي الخبز و السمكا
فاسبل دمعة لما رآني قادما و بكى
فلما حلفت له باني صائم ضحكا
و الواقع ان الاشعار كثيرة في هذا الباب..الا ان من اطرف ما قرات عن البخل قول جرير في هجائه لقبيلة بني تغلب لحرصها الشديد على اخفاء الطعام عن النزلاء و عابري السبيل:
قوم اذا اكلوا اخفوا كلامهم **** و استوثقوا من رتاج الباب و الدار
قوم اذا استنبح الاضياف كلبهم **** قالوا لامهم بولي على النار
فتمنع البول شحا ان تجود به **** و ما تبول لهم الا بمقدار
اما عن نوادر البخلاء فهي كثيرة جدا.. و ساكتفي بان اسوق مثالا عن هذه النوادر ..
يحكى ان احد التجار مر على احد المدن المشهورة بالبخل..في يوم صيف حار جدا..و اضطر الى طرق الابواب ليطلب منهم بعض الماء و اللاكل .. وكان يعلم بانهم لن يعطوه شيئا ..و لكنه كان مرغما على ذلك لشدة عطشه و جوعه ..فلم يلبي احد طلبه ..و كانوا ينهرونه و يطردونه حتى وصل الى احد البيوت ..طرق الباب فخرجت اليه جارية, و قال لها : هلا سقيتني جرعة ماء؟ فاجابته بان ينتظر قليلا..
و خرجت بعد برهة و معها آنية كبيرة مملوءة باللبن البارد و قدمتها اليه ..فلم يصدق الرجل ما راته عيناه فاخذ يشرب بسرعة فائقة حتى ارتوى ..
فقال لها : لقد ظلمكم الناس حين قالوا انكم قوما بخلاء .
فقالت له: كذلك نحن..و الله لولا ان الفار سقطت و ماتت في هذا اللبن ما سقيناك اياه ابدا ..
فقام الرجل على الفور و رمى الاناء من يده فكسره ..
فصرخت الجارية قائلة : ويحك , لقد كسرت مبولة سيدتي..يا ويلك منها!!!!
و من اشهر البخلاء العرب نجد الحطيئة و ابي الاسود الدؤلي..
اذ يحكى ان الحطيئة كان جالسا امام بيته و هو يحمل عصا..فمر به رجل فقال : انا ضيف, فاشار الحطيئة للعصا و قال : اترى هذه؟ انما هي للضيوف.
اما عن ابي الاسود الدؤلي .. فقد اكل معه اعرابي يوما.. فراى له اكلا منكرا ( اي سريعا) فقال له : ما اسمك؟ قال :لقمان. فقال : صدق اهلك انت لقمان.
هذا فقط بعض نظرة بسيطة و موجزة عن البخل..لكن ليت البخل كان فقط في الانفاق..بل نجده للاسف اكثر في العواطف و المشاعر..
اذ ان البخل العاطفي ظاهرة اجتماعية نجدها بكثرة بين الاسر.. نتيجة الجفاف في المشاعر بسبب ظروف الحياة او بسبب طبع الشخص الذي يظن ان غدقه لمشاعر الحب و الحنان على من حوله بمثابة ضعف في شخصيته..او انتقاص من كرامته..
بينما كلمات الحب .. و اظهار مشاعر الود..اتجاه الاباء..او الازواج..او الابناء و الاخوة..لن تكلفنا مجهودا و لا مالا..هي فقط مشاعر دفء تسعد من حولنا .. و تجعل حياتنا احلى و ابسط و اروع..
لهذا نرى ان البخل سواء كان في الانفاق المادي او في الاغداق العاطفي..خصلة تؤذي من حولنا..فلا باس ان نكون كرماء دون اسراف في اموالنا و مشاعرنا لنسعد نحن ..و نسعد احبائنا ..و نرضي الله سبحانه و تعالى.