مازلت بين النوم و اليقظة..تصل الى اذني اصواتا اختلطت رغم همسها..رائحة الخبز المشوي تتسرب الى معدتي..تتزاحم الصور في ذاكرتي..هناك شيئا ما..فتحت عيني..وقفزت من سريري..
بعيون ازدحم فيها النوم و القلق..هرعت الى غرفة والدتي..مررت بالصالة..كانت جدتي جالسة هناك تضع يدها على خدها و تطرق براسها الى الارض ..
كان صوت خالتي في الغرفة..امي جالسة على طرف الفراش ترضع اخي الذي لا يتعدى الشهر من عمره..ربما هذه رضعته الاخيرة.
اليوم يوما قاسيا بكل المعاني..ستغادر امي الى العاصمة من اجل العلاج..و ستبقى هناك لاسابيع لا يعلمها الا الله ...
عجز الاطباء في مدينتي عن ايجاد دواء لها..
او حتى معرفة نوع مرضها..عليها الان ان تترك كل شيئ وراءها
وتمضي ..عانت كثيرا في صمت في البداية ظن الجميع ان حالتها الصحية تدهورت بسبب حملها في سن متاخر ..لكن الحال لم يتحسن بعد الولادة ..بل زاد و تفاقم.. حتى اصبح من يعرفها لا يتعرف الى ملامحها.
سمعتها تطلب مني ان احمل اخي..مازلت لم استوعب بعد فراقها للبيت..حملت اخي دون ان انظر اليه..فلم اكن استوعب حتى مجيئه للحياة ..كنت اتمنى ان تكون انثى لالعب معها..
خالتي تساعد امي في تغيير ملابسها..
وتعد لها حقيبة الرحيل..اراقب ما يجري في ذهول..
هل حقا ستغادر البيت؟؟؟؟
هل يمكن ان اعود من المدرسة دون ان تستقبلني ذراعيها؟
هل يمكن ان احتاج لحكي اسراي الصغيرة فلا اهمس لاذنيها؟
و هل يمكن ان استيقظ كل صباح دون ان تعانقني نظراتهاوترعاني عينيها؟
كانت الدموع تتزاحم الى عيني فاحاول درءها بسرعة ..
بعدما خرجت خالتي من الغرفة اقتربت مني امي..
همستاالي في تضرع ان اعتني باخي الصغير لان ليس له الان غيري .
قالت ان جدتي كبيرة في السن..
وان خالتي لها بيتها و اولادها و مسؤولياتها الكبيرة فلا داعي لان نثقل عليهم اكثر ..هززت راسي في صمت .. وابتلعت حسرة كبيرة و انا اسمعها تطلب برجاء ]و هي تربت على راسي ان اتخلى عن دراستي لكي ارعى هذا البيت في غيابها..
وصل خالي الذي سيرافق والدتي للعاصمة ويعود ادراجه بعد ان يتركها هناك ..في مدينة بعيدة..و مستشفى بارد..و اناس غرباء..
كانت لحظة الوداع موجعة بكل المقاييس..لحظة حائرة بين الاشراق و العتمة ..مازلت لا اواجه و لا اصدق و لا اطيق هذا الفراق..
امي يا اغلى الناس عندي..اليوم زاد حبي لك ..كبر حنيني اليك
واضطرم نارا في جوفي..و اشتعل حريقا بين اضلعي ..
اليوم قطعني الالم..مزقني ..و نثرني في الهواء.. ]فتطايرت في الفضاء دموعا بلا عيون..
من اليوم و حتى عودتك لن تشرق الشمس ]..و سيختفي القمر ..
وستضيع مني اشياء..وستنكسر اشياء..و لن يبقى من روحي سوى الحطام..
غرفتك ستبدو شاغرة..فارغة..و في كل البيت سيعم الفراغ..مجرد فراغ و اسى..
قبلتها على خدي و هي تودعني مازالت دافئة..و دموع الوداع
واصوات الدعاء بالشفاء مازالت تسكن ذاكرتي..
كان قلبي يهرب مني و السيارة التي تحملها رفقة خالي تبتعد عن البيت..اخي الصغير مازال في حضني بدون ان انظر اليه..
تمنيت ان اركض وراءها و اعانقها من جديد..تمنيت ان اغادر معها كي لا يعذبني الغياب..تمنيت ان اصرخ باعلى صوتي..
انا بحاجة اليك يا امي..بحاجة الى عينيك تشرقان في حياتي..
الى يديك تربتان بحنو على شعري..الى كلامك..الى عاداتك..
لكنها مضت..و اختفت السيارة عن الانظار..
وعم السكون البيت..احسست باخي يتحرك بين ذراعي..ونظرت اليه..رايت وجهه مبللا بدموعي..كان يجمع شفتيه كانه يهم ان يطلق صرخة بكاء طويلة..و في عينيه الجميلتين اجتمعت نظرة حزن غريبة..يا الله..هل يحس هذا الرضيع بغياب امه؟؟؟؟؟
و لاول مرة احسست اني احبه بشدة..فضممته الى صدري و احسست ان هذا الطفل ..ومنذ اللحظة..اصبح مسؤوليتي وحدي..
و انا اخفي راسي في جسمه الصغير..احسست بيد و صوت خالتي تطلب مني ان اترك الطفل..و اسرع لمدرستي..رغم ترددي ..ومحاولة التزامي بطلب امي..الا ان الجميع اكدوا ان الرضيع سيكون بخير..فتركته..و سبقتني لهفتي لفصلي و زميلاتي..
كم تبدو هذه الايام بعيدة..لازلت اذكر كيف كنت اسهر مع هذا الصغير للفجر وهو يبكي طالبا لبن امه ..كم كان صعبا ان افطم طفلا لم ارضعه ..
و مازلت اذكر كيف كنت اتسلل في اوقات الفسحة بالمدرسة و اجري للبيت ..و الحمد لله ان المدرسة كانت قريبة..كنت اريد ان اطمئن عليه..هل هو بخير؟ هل نام؟ هل اخذ رضعته؟ هل تغمر عينيه البراءة و الاقبال على الحياة؟
كانت الايام تمضي متثاقلة ..قاسية..تغيب امي لاسابيع طوال..ثم تعود..ثم تغيب من جديد..في رحلة مضنية بحثا عن العلاج..
اصبح الامر مع توالي السنين امرا عاديا..و الحمد لله انه اصبح مع التعود عليه اقل قساوة..
اخي الصغير الان في ربيعه السابع..عندما يجوع او يظما او يحتاج لشيئ لا يذهب لامي ..بل يلجا الي..حتى بالليل لا يفارقني..مازلت اسمع كل ليلة صوت اقدامه الصغيرة تطا ارض غرفتي..و مازلت اشعر و انا في عز النوم بيده الصغيرة تحيط بعنقي..احيانا احمله من جديد لغرفته..و احيانا..اترك له سريري و اغادر الى مكانه لكن في اغلب الاوقات اجدني اضمه الي كانه حلمي الذي انجبته و رعيته لسنين..
لكن يبدو ان هناك خللا ما قد حدث..بالامس و عندما كنت اطلب منه ان ينجز بعض التمارين التي وضعتها له..ظل يبكي قائلا انه كره التمارين التي اثقل بها كاهله الصغير..و عندما نهرته بقوة..قام و الدموع تشرق في عينيه الزرقاوبن..وجلس امام الكراسة..و بدل ان يبدا في حل التمرين رفع سبابته الصغيرة في وجهي قائلا:اقسم بالله ان بقيت تعطيني التمارين لاطلقنك يا رجاء..لكي ارتاح منك و من التمارين..
و فتحت فمي في دهشة و اتسعت عيناي من الذهول..بينما واصل مؤكدا..نعم ساطلقك و احمل سريري و ملابسي و اذهب للعيش مع اناس اخرين..
يا الهي!!! كان يتكلم بجدية و الدموع تتدفق من عينيه كشلال هادر ..فلم استطع الا ان اضع راسي بين يدي لاحاول ان اخفي ضحكة قوية هربت مني..يا الله!!هذا الطفل اختلطت عليه المفاهيم..و يبدو انه يعتقد اني زوجته!!
حاولت ان افهمه ان االطلاق لن ينفع معي..لاني اخته..وان تماريني ستبقى تلاحقه دائما..لاني اريده ان يكون اشطر تلميذ و ان يكون بالمستقبل اعظم رجل..
لكن كلامي للاسف لم يقنعه..و امنياتي له لم يدركها عقله الصغير..كان فقط يريد ان يلهو ..ثم يلهو..
ومع ذلك..تغمرني السعادة كل يوم و انا اراه يكبر..
و احس ان مسؤوليتي لم تنته بعد..واشعر بقلق و خوف عارم حين اتخيل اني قد اغادره يوما ما..
انه هدية امي الي..اهدته الي مكرهة ذات صباح بارد..فملا حياتي دفئا و اشراقا..
شكرا لك يا امي على هديتك ..و شفاك الله و رعاك..و ليساعدني ربي على ان اكون طوع
خدمتك ما حييت..لاني اعيش و احيا فقط ببركة دعائك لي..و رضاك عني..احبك يا امي.