[size=21]العلو في الأرض والفساد في ضوء القرآن.. حكم وأسرار
بقلم: د. توفيق علي زبادي*
بقلم: د. توفيق علي زبادي*
قرن الله تعالى في كتابه الكريم بين العلو في الأرض والفساد في أكثر من موضع، وقدم فيها العلو على الفساد؛ مما يشير إلى أن العلو هو سبب كل فساد موجود في الأرض؛ لأن المتعالي يرد الحق ويجحده، ويحتقر الناس ويستهين بهم، فلا يسمع منهم، فيسير فيهم سير فرعون المستبد المفسد، فتأسن النفوس ويُسْتَخَفْ بها، فتطيعه في كل شيء، فلا تعرف معروفًا، ولا تنكر منكرًا، ويصدق فيها قول الحق: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) (الزخرف: 54).
ولا حل لمن هذه صفاته إلا بانبعاث موسى ليكون سببًا في هدايته أو هلاكه، وهذه سنة الله تعالى في عباده، أن يبعث لأهل الباطل أهل الحق، يناضلونهم ويدفعونهم، وتتحقق سنته بأن تكون العاقبة للمتقين.
العلو: العظمة والتجبر (المعجم الوسيط 2/ 625)، وفَسَدَ: ضِدُّ صَلَحَ (تاج العروس: 8/ 496).
والعلو: التكبر عن الحق وعلى الخلق، والطغيان في الأعمال، والفساد: ضد الصلاح، وهو كل فعل مذموم في الشريعة أو لدى أهل العقول الراجحة (التحرير والتنوير: 20/ 118).
الآيات التي قرن الله فيها العلو بالفساد:
قال تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (النمل: 14).
وقال تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 4).
وقال تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص: 83).
عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص: 83) قال: التجبر في الأرض والأخذ بغير الحق.
وعن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه كان يمشي في الأسواق وحده، وهو والٍ يرشد الضال ويعين الضعيف، ويمر بالبقال والبيع فيفتح عليه القرآن ويقرأ (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا) ويقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع في الولاة، وأهل القدرة من سائر الناس (الدر المنثور: 11/520).
وقال الطبري رحمه الله: أي: تلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُ نَعِيمَهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ تَكَبُّرًا عَنِ الْحَقِّ فِي الأَرْضِ وَتَجَبُّرًا عَنْهُ، وَلاَ ظُلْمَ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَعَمَلًا بِمَعَاصِي اللَّهِ فِيهَا (تفسير الطبري: 18/ 343).
وقال السعدي رحمه الله: أي: ليس لهم إرادة، فكيف العمل للعلو في الأرض على عباد اللّه، والتكبر عليهم وعلى الحق (وَلا فَسَادًا) وهذا شامل لجميع المعاصي، فإذا كانوا لا إرادة لهم في العلو في الأرض والإفساد، لزم من ذلك، أن تكون إرادتهم مصروفة إلى اللّه، وقصدهم الدار الآخرة، وحالهم التواضع لعباد اللّه، والانقياد للحق والعمل الصالح.
وهؤلاء هم المتقون الذين لهم العاقبة، ولهذا قال: (وَالْعَاقِبَةُ) أي حالة الفلاح والنجاح، التي تستقر وتستمر، لمن اتقى اللّه تعالى، وغيرهم- وإن حصل لهم بعض الظهور والراحة- فإنه لا يطول وقته، ويزول عن قريب، وعلم من هذا الحصر في الآية الكريمة، أن الذين يريدون العلو في الأرض، أو الفساد، ليس لهم في الدار الآخرة، نصيب، ولا لهم منها نصيب (السعدي: 624).
وقال سيد قطب رحمه الله: فلا يقوم في نفوسهم خاطر الاستعلاء بأنفسهم لأنفسهم، ولا يهجس في قلوبهم الاعتزاز بذواتهم والاعتزاز بأشخاصهم وما يتعلق بها. إنما يتوارى شعورهم بأنفسهم ليملأها الشعور باللّه، ومنهجه في الحياة. أولئك الذين لا يقيمون لهذه الأرض وأشيائها وأعراضها وقيمها وموازينها حسابًا، ولا يبغون فيها كذلك فسادًا. أولئك هم الذين جعل اللّه لهم الدار الآخرة. تلك الدار العالية السامية (الظلال: 5/2714).
قال ابن تيمية رحمه الله: إن الناس أربعة أقسام:
القسم الأول: يريدون العلو على الناس، والفساد في الأرض وهو معصية الله، وهؤلاء الملوك والرؤساء المفسدون، كفرعون وحزبه، وهؤلاء هم شرار الخلق، قال الله تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 4).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِي، صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ"، قَالَ رَجُلٌ إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ "إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ" (مسلم: باب: تحريم الكبر- 275)، فبطر الحق دفعه وجحده. وغمط الناس احتقارهم وازدراؤهم، وهذا حال من يريد العلو والفساد.
والقسم الثاني: الذين يريدون الفساد، بلا علو، كالسراق والمجرمين من سفلة الناس.
والقسم الثالث: يريدون العلو بلا فساد، كالذين عندهم دين يريدون أن يعلوا به على غيرهم من الناس.
وأما القسم الرابع: فهم أهل الجنة، الذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادا، مع أنهم قد يكونون أعلى من غيرهم، كما قال الله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 139)، وقال تعالى: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (محمد: 35)، وقال: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون: 8).
فكم ممن يريد العلو، ولا يزيده ذلك إلا سفولاً، وكم ممن جعل من الأعلين وهو لا يريد العلو ولا الفساد؛ وذلك لأن إرادة العلو على الخلق ظلم؛ لأن الناس من جنس واحد. فإرادة الإنسان أن يكون هو الأعلى ونظيره تحته ظلم (السياسة الشرعية: 173).
وقال العلامة أبو الحسن الندوي رحمه الله: تحت عنوان "عهد القيادة الإسلامية ":"الأئمة المسلمون وخصائصهم":
"ظهر المسلمون, وتزعموا العالم, وعزلوا الأمم المزيفة من زعامة الإنسانية التي استغلتها وأساءت عملها, وساروا بالإنسانية سيرًا حثيثًا متزنًا عادلاً, وقد توفرت فيهم الصفات التي تؤهلهم لقيادة الأمم, وتضمن سعادتها وفلاحها في ظلهم وتحت قيادتهم من هذه الصفات: "أنهم لم يتولوا الحكم والقيادة بغير تربية خلقية وتزكية نفس, بخلاف غالب الأمم والأفراد ورجال الحكومة في الماضي والحاضر, بل مكثوا زمنًا طويلاً تحت تربية محمد صلى الله عليه وسلم وإشرافه الدقيق, يزكيهم ويؤدبهم, ويأخذهم بالزهد والورع والعفاف والأمانة والإيثار وخشية الله, وعدم الاستشراف للإمارة والحرص عليها. يقول: "إِنَّا وَاللَّهِ لاَ نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ وَلاَ أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْه" (مسلم: باب: النهي عن طلب الولاية- 4821).
ولا يزال يقرع سمعهم: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83)، فكانوا لا يتهافتون على الوظائف والمناصب, فضلاً عن أن يرشحوا أنفسهم للإمارة, ويزكوا أنفسهم, وينشروا دعاية لها, وينفقوا الأموال سعيًا وراءها، فإذا تولوا شيئًا من أمور الناس لم يعدوه مغنمًا أو طُعْمَة أو ثمنًا لما أنفقوا من مال أو جهد; بل عدوه أمانة في عنقهم, وامتحانًا من الله; ويعلمون أنهم موقوفون عند ربهم, ومسئولون عن الدقيق والجليل, وتذكروا دائمًا قول الله تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) (النساء: من الآية 58).
قول الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) (الأنعام: 165).
في ظل هؤلاء وتحت حكمهم استطاعت الأمم والشعوب- حتى المضطهدة منها في القديم- أن تنال نصيبها من الدين والعلم والتهذيب والحكومة, وأن تساهم العرب في بناء العالم الجديد, بل إن كثيرًا من أفرادها فاقوا العرب في بعض الفضائل, وكان منهم أئمة هم تيجان مفارق العرب وسادة المسلمين من الأئمة والفقهاء والمحدثين (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: (ج 1/ ص 112).
حسن خاتمة من لا يريد علوًا في الأرض ولا فسادًا:
قال مسلمة بن عبد الملك لما احتضر عمر بن عبد العزيز كنا عنده في قبة، فأومأ إلينا أن اخرجوا، فخرجنا فقعدنا حول القبة، وبقي عنده وصيف، فسمعناه يقرأ هذه الآية (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين) (القصص: 83) ما أنتم بإنس ولا جان، ثم خرج الوصيف، فأومأ إلينا أن ادخلوا فدخلنا فإذا هو قد قُبِضْ (الروح: 65)
فليكن كل منا موسى الذي يقف في وجه كل متعالٍ مُفْسِد في الأرض حتى تطهر الأرض من أهل العلو والفساد، ويرثها أهل التقوى والرشاد.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
[/size]