حكى الأصمعي قال :
خرجت في طلب الأعاجيب من الأحاديث
فلاحت لي بلدة بيضاء كأنها الغمامة، فدخلتها فإذا هي خراب
وليس فيها ديار ولا أنيس ، فبينما أنا أدور في نواحيها
إذ سمعت كلاماً فطار قلبي، فأنصتّ ، فإذا به كلام موحش
فسللت سيفي ودخلت ذلك المكان، فإذا أنا برجل جالس
وبين يديه صنم وفي يده قضيب وهو يبكي ويقول
أما ومسيـح الله لو كنـت عاشقـاً
لمت كما ماتت ، وقد ضمني لحدي
وكم أتسلـى بالحديـث وبالمنـى
وبالعبرات السائـلات على خـدي
وإني وإن لم يأتني الموت سرعـةً
لأمسي على جهد وأضحي على جهد
فقال الأصمعي : فلما سمعت ذلك منه هجمت عليه
فلم يشعر بي إلا أن قلت له: السلام عليك
فرفع رأسه وقال: وعليك السلام، من أين أنت ومن جاء بك إلى هذا المكان ؟
فقلت: الله جاء بي
فقال: صدقت وهو الذي أفردني في هذا المكان
فقلت له: ما بالك تشير إلى هذا الصنم الذي بين يديك
فقال لي: إن حديثي عجيب وأمري غريب
فقلت له: حدثني به ولا تخف منه شيئاً
فقال لي: اعلم أننا كنا قوماً من بني تميم وكنا على دين المسيح وكان دعاؤنا مستجاباً
وكانت هذه الصنمة ابنة عمي وكنت أنا وإياها .
فلما كبرت حجبها عمي عني ، فكنت أحبها سراً
فبينما أنا ذات ليلة وأنا عندها إذ سمعت عمي يدق الباب
فأدخلتني سرداباً وقامت هي ففتحت الباب ودخل عمي فقال لها: أين عبد المسيح ؟
فقالت: إني لم أره
فقال لها: إني سمعت كلامه عندك
فقالت: لم تسمع شيئاً وإنما خيل لك
فقال لها: والله إن لم تصدقيني ، وإلا دعوت عليك إن كنت كاذبة فيمسخك الله حجراً
فقالت له: إذا كنت كاذبةً
فرفع طرفه إلى السماء وقال: اللهم يا رب الأولين والآخرين
إن كنت تعلم أن ابنتي هذه كاذبة في قولها فامسخها حجراً
فمسخها الله حجراً ،
ولي أربعون سنة في هذا المكان
وأنا أتقوت من نبت الأرض وأشرب من هذه الأنهار
وأتسلى بالنظر إلى هذه الصنمة إلى أن يحكم الله بالموت
ثم بكى وأنشد يقول :
وحق الذي أبكى وأضحك والذي
أمات وأحيا والذي خلق الخلقـا
لئن قلت إن الحب قد يقتل الفتى
وإن الفتى بعد التفرق لا يبقـى
لقد قلت حقاً واسأل العبرة التـي
تسيل وسيل الدمع مني لا يرقـا
فقال الأصمعي: ثم قام ذلك الشاب وتوارى عني بجدار من تلك الجدر
ونزع المسوح التي كانت عليه ولم يبق عليه إلا ما يواري
سوأته فتأملته ، فإذا عيناه تدور في أم رأسه
فقلت في نفسي: هذا أراد أن يطلعني على نحول جسده ثم أقبل علي
وهو عريان
وقال لي : يا فتى إنني قائل ثلاث أبيات ، وكان مني ما كان
فإذا أنا مت فكفني أنا وإياها في هذه الجبة وادفنا في هذا الجون
وضمنا بالتراب واكتب على قبرنا هذه الأبيات
من لم يكن يحسب أن الهوى
يقتل ، فلينظر إلى مضجعي
لم يبق لي حـولٌ ولا قـوةٌ
إلا خيال الشمس في موضعي
أشكو إلى الرحمن جهد البلا
إشارة بالطـرف والإصبـع
الأصمعي: هذا وأنا أنظر إليه وأسمع شعره وأتعجب منه ومن أمر الصنمة
وإذا به وقع على الأرض مستلقياً على ظهره وشهق شهقةً فارقت روحه جسده
فقال الأصمعي: فكفنتهما ودفنتهما في ذلك الجون
وكتبت على قبرهما تلك الأبيات، وتركتهما وانصرفت وأنا متعجب غاية العجب .