" و يسألونك عن الروح "
" قل الروح من أمر ربي "
كيف انفلتت تلك الروح ؟! كيف غادرت هذا الكيان المحبوب ؟! كيف سكن الجسد ؟! و توقف الألم ؟ و انتهى كل شيء ؟!!
ورحلت يا أبي..
أي كلام أستطيع أن أصف به الحريق الذي يشتعل في صدري؟ أي من عبارات الرثاء.. وكلمات الوجع تعبر عما بداخلي من وقع هذا الفراق.. و هذا الفقد و الغياب ؟!!
ما زلت لا أستوعب ولا أطيق التفكير في أني لن أراك مجددا.. مازلت أوهم نفسي بأنك هنا .. في غرفة ما .. تنام قرير العين.. أو في الحمام تتوضأ و ستدخل علينا في أية لحظة..
ما أصعب فراقك يا أبي..رغم مرضك.. رغم ألمك.. رغم تدهور صحتك.. كنت أمني نفسي بأنك لا تلبث تتحسن.. و سأراك بخير..
لولا اتصال هاتفي في ذاك الصباح القريب.. واسم أخي على الشاشة المضيئة.. يخبرني بأن هناك شيئا كنت أتمنى لو أموت قبل سماعه..
بين ضياع .. وخوف .. ووجع .. ودموع.. كنت قد وصلت بيتك يا أبي..
وجدتك ما تزال في فراشك كما تركتك بالأمس.. لكن صفرة غريبة تعلو محياك.. و لا أثر لنفس في صدرك الذي احتواني سنين عددا..
وضعت يدي على جبينك البارد.. مازالت قطرات عرق زكية تعلو الجبين.. يا الله !!
تمزق القلب.. و اشتعل حتى الاحتراق.. وضعت كفي فوق يدك الباردة أبي.. دعكتها لعل دفء كفي يوقظ الحياة في يديك.. ألم تكن تضع يدي الصغيرة بين كفيك لتدفئني في أيام الشتاء القارسة ؟!!
كلمتك.. ناجيتك.. دعوت ربي أن يكون هذا مجرد كابوس و أنك لا تفتأ تفتح عينيك وتكلمني..
في كفنك.. جثوت الى جوارك.. مرغت وجهي على صدرك.. مررت أصابعي على وجهك.. قبلت جبينك.. فغمرتني روائح الحنوط و الطيب المنبعث من ثنايا تجاعيد السنين..
قرأت لك بعضا من الذكر الحكيم.. و دعوت لك و أنا أبكي.. و ما زلت أبكي.. ولو بقيت أبكيك العمر كله فلن تطفئ دموعي الحريق الذي يلهب قلبي.. و يشتعل بين جوانب صدري..
أشياؤك ما زلت هنا.. كما تركتها.. كتاب الله.. ثيابك.. نظارتك.. مقص أظافرك.. ساعتك.. و أشياء و أشياء.. تنبش الذكرى.. وتفجر الرحيل..
و أحس بالضياع بين الحقيقة و الوهم.. و تتزاحم في الفكر أحداث و أنفاس و روائح تذكرني بكل لحظاتنا معك..
في بيتنا القديم كانت أغلب الذكريات.. بحلوها و مرها..فناء البيت.. أماسي الصيف.. شجرة الرمان التي تحب أن ترعاها بنفسك.. و روائح السمك الطري المشوي الذي كنت تحبه مع الليمون المعصور..
ذكريا كثيرة تتزاحم في الذاكرة.. تنبؤني أنك كنت خير والد.. و أحن و أروع أب.. دمعتك قريبة بسبب أي علة تلم بي أو باخوتي.. و سعادتك فقط في أن ترانا بخير ولو بدلت في سبيل ذلك عافيتك و صحتك و زهرة عمرك كله..
كم أتشهى الآن حضنك.. سماع صوتك .. كلماتك التي كنت تناديني بها مدللا لي رغم أني تجاوزت مرحلة الطفولة .. و لحد قبل رحيلك كنت ما تزال تحب مناداتي بها و أنت بين الصحو و الغفوة ..
ربي .. ان أبي كان لنا خير والد.. ربانا على الفضيلة و الخير و حب الصلاة و الالتزام بها منذ الصغر..
ربي .. ان أبي أوقد لنا من عمره فتيلا نمضي على نوره كي لا نضل.. و أفنى عمره لأجلنا و لأجل زرع الخير فينا.. و لم يعد لنا ما نبره به سوى الدعاء يا كريم يا رحيم..
اللهم ان أبي عبدك .. ابن عبدك وابن أمتك.. مات وهو يشهد لك بالوحدانية.. و لرسوله بالنبوة.. فاغفر له انك انت الغفار.. و ارحمه رحمة تطمئن بها نفسه.. و تقر بها عينه.. و احشره مع المتقين الى الرحمن وفدا..
اللهم انا لا نزكيه عليك.. و لكنا نحسبه كان صابرا على البلاء.. قنوعا.. راضيا بما قسمت له.. لم يغره يوما زخرف الدنيا.. و لم يطمع فيما أوتيت غيره من نعم .. و كان لآخر لحظاته حامدا شاكرا .. فامنحه يا ربي درجة الصابرين الشاكرين الذين يوفون أجورهم بغير حساب..
اللهم عامله بما أنت أهله و ليس بما هو أهله.. و ابدله دارا خيرا من داره.. و أهلا خيرا من أهله .. و انزله منازل الصديقين و الشهداء و الصالحين..
اللهم آنسه في وحدته.. و في وحشته و غربته.. و اجعل قبره روضة من رياض الجنة و املأه بالرضا و النور و الفسحة و السرور ..
اللهم اجزه عن الاحسان احسانا.. و عن الاساءة عفوا و غفرانا.. و شفع فيه نبينا محمد عليه الصلاة و السلام.. و احشره تحت لوائه.. و اسقه من يده الشريفة شربة هنيئة لا يظمأ بعدها أبدا..
يا رب.. يا مجيب.